قراءة لنص ( صحوة ) للدكتورة عبير خالد يحيي بقلم الأديبة اللبنانية: زينب الحسيني
قراءة لنص صحوة
للدكتورة عبير خالد يحيى
بقلم الأديبة اللبنانية: زينب الحسيني
النص:
صحوة.
لم يصدّقوا أنني سأهبط من عليائي يومًا ما..
صمتي الذي أشعلَ أوارَ ألسنتهم بالرجاء والاستجداء قبل
عشرين سنة, أخمدَها اليوم صوتي الذي انطلق ضعيفًا, ممتطيًا لسانًا ملجومًا,
متكسرًا عند الفواصل, كسيحًا عند النقط :
-" أريد
بدلة كحلية, وقميصًا أبيض, وربطة عنق وردية.
أريد عطرًا فاخرًا.
أريد أن أحلق ذقني وشعري.
وسأنزل ...."
لم أكمل كلامي, قوطعتُ باندهاش الوجوه التي تكرمشتْ
وتغيّرتْ سحناتُها, وهربتْ منها الحياةُ هنيهة, كأنها رأتْ شبحًا, وجوهٌ طيبة
تأسّفتُ بيني وبين نفسي أنّني عكّرتُ سماحتَها وصفاءها, زعزعتُ أمنَها, وتمنيتُ لو
أنّني لم أُخرِجْ صوتي من قمقمه.
كانت أمي أول من أخرجتْها (زغرودةُ) أختي من الذهول!
وأعادتها إلى أرض المحسوس, فانطلق لسانُها بعبارات الحمد والشكر لله...
لم أغادرْهم إلّا مُرغمًا, أمي وأخوتي وأصدقائي, كنتُ
على موعدٍ قَدَريٍّ مع صمتٍ كئيب أطبق بنواجذه وأنيابه على حياتي, يوم فاجأني
الموتُ بابتلاعه نصفيَ السفلي وكأنه لم يكن جائعًا بما يكفي لابتلاعي كاملًا,
أدركتُ لاحقًا أنه كان متخمًا بعد أن ابتلع المئات من الأشخاص كاملين في انفجار
إرهابي, وكان حرمُ الجامعة مائدةَ وليمتِه!
انتهيت مشلولًا بفعل شظية هشّمتْ فقراتي القطنية, على
سريرٍ لم أشأ أن أغادرَه!
لم يُغرِني الكرسيُّ المتحرك بركوبه, وسرقَ الرعبُ
صوتي.. إرادتي, وبعضًا من ذاكرتي !.
وبقيتْ هي.. حوّائي..
تراودني عن نفسي, تريدني أن أمتطي صهوةَ الحياة من
جديد! كيف أفعل ذلك؟ وهل تقبل الحياة بأنصاف بشر؟ كيف يكون ذلك وقانون الاصطفاء
الطبيعي الذي يحكمها هو البقاء للأقوى؟! وأنا لستُ قويًّا أصلًا لأدخل في تصنيف
القوة! أم أنها احتفظتْ بنصفيَ العلوي لتضعني في قوائم قوانين المعاوضة؟! أو لعلّي
حصّتها من اتفاقية تقسيم بينها وبين الموت؟! وكلٌّ أخذَ حصّته مني ومضى!.
عشرون سنة وهي مسجونة معي, نأكل ذات الطعام, في ذات
الصحن, ونشرب ذات الشراب, من ذات اليد المغضّنة الحنونة, ننامُ معًا, نتناصفُ ذاتَ
السرير, تدلّكُ نصفيَ الميّت, وكلُّها أملٌ بحدوث المستحيل, أضحكُ من أوهامها,
تغضبُ مني, ترفعُ في وجهي تفاحةً حمراء شهية, قطفتْها ذاتَ غفلةٍ من شجرة كنتُ
حدّثتُها عنها في إحدى حكاياتي, تهدّدُني بأنّها لن تشاركني بها, وأنها ستأكلها
بمفردها, لتهبطَ إلى عالم الضجيج!.
عشرون سنة مضتْ بنا وهي تهدّد, بالأمس نفّذت تهديدها..
غادرتْني..
تركتْ على جدران ذاكرتي المغتصبة رسالةً, فحواها أنها
تريد أن تنجبَ ولدًا من طين وماء! وعلينا أن نهبط إلى أرض الطين والماء معًا !
سبقتْني لتستنهض عجزي, تاركةً ثوبها الوحيد على نصفي الميت, لأدركَ أنها هبطتْ
عارية! وعليَّ أن ألحقَ بها لأسترَ سوءتها!.
على كرسيّ مدولب, وأمام باب العمارة استويتُ بكامل
أناقتي, ببدلة كحلية وقميص أبيض وربطة عنق وردية, أربعيني أودّع شبابي, وأخطو أولى
خطواتي باتجاه الكهولة, تاجٌ فضيٌّ يزيّن رأسي, لا أدري متى ولا من أين اقتنيتُه,
أدركت لاحقًا أنه هديّة الأيام والشهور والسنوات بالتقسيط..شعرة شعرة...
بقيتُ في مكاني, أرتّبُ مراسمَ احتفالية للقادم من
حياتي, وأوزّعُ المهامَ على المحيطين, كلُّهم كبروا, على غفلة من زماني, لا أدري
كيف تمكّنوا من تجاوزي ونسياني على حدود سباتي؟! أم أنّي أنا من تجاوزتهم؟! لا
أدري...!
حالما حسِبتُها قادمة بسرعة البرق في سيارة فارهة,
أمرتُهم بإخلاء المكان إلّا منّي على كرسيّيَ المدولب, ستخطفني حتمًا, لكن بمفردي,
وليس بوجود تلك الحشود, لأنها عارية, خجولة إلّا مني, وثوبُها الوحيد معي, أبيضَ
لم تمسسه أدرانُ الزمن, سألقيه عليها ليرتدَّ إليها العنفوان, سنتزوّج, ويتكوّر
بطنها, وستنجبُ ابن الطين والماء, يرثُ منها عزيمةً يرمّم بها فجواتِ عجزي وقلّةَ
حيلتي, ويرثُ مني أنَفَةً وقوّةً تحميه من ذلّ الاحتياج, وسيرثُ من كلَينا الخوفَ,
نعم.. الخوفُ الذي تسلّل إلى كلِّ خليّة في أعضائنا النبيلة وغير النبيلة, عند أول
خطيئة ارتكبناها, وعُوقبْنا عليها بالطّرد...
إنها تقتربُ بسرعة كبيرة, سأتهيّأ لعناقها لأسترَ
بدنَها بحركة تمثيلية, يااااا قسمتي العادلة, هيا حوااااائيييي...
أنا الآن مسجّى على سريرٍ مدَولبٍ أمام عربة الإسعاف,
وقد استوى الموتُ في كِلا نصفَيَّ, متدثّرًا ببدلتي الكحلية وقميصيَ الأبيض وربطة
عنقي الوردية, وأصواتٌ كثيرة تأتيني من عالم الضجيج, وعويلُ امرأة أزاحتِ الناسَ
من حولي, ووقفتْ تحملقُ بي, غريبةُ الملامح, لم أعرفْها, غطّتْ خطوطٌ حمراء ودوائر
زرقاء مساحاتٍ كبيرة في وجهها, هل كل هذه الألوان أصباغ زينة؟ مهلًا, سأدقق أكثر,
لا لا, سحجاتٌ نازفة وكدمات...! سمحت لبصري أن يبحث عن حوائي في باقي أنحائها,
قبلَ عبوريَ الأخير, فنقل إلى دماغي المحتضِر صورةً لامرأةٍ تمزّق ثوبُها, وتعرّى
الكثيرُ من جسدِها, تصرخُ بهلعٍ:
-" سامحوني,
اغفروا لي أرجوكم, كنتُ في عجلة من أمري, فررتُ من مكان سُجِنتُ فيه عقدين من
الزمن, هربتُ من زوجي, بعد أن أمعن كثيييييرًا هذه المرة بإيذائي, تملّصتُ من بين
يديه, ضربتُه بتمثال أفروديت الذي كان يضربني به كلما لعبَ الجنونُ والسكرُ بعقله".
لم يكنِ الصوتُ صوتَ حوّائي! بل صوتُ امرأة بدأتْ
تلسعُني بسِحاحِ دموعِها, تنشجُ مع كلماتٍ تفرّ منها مع تلاحقِ أنفاسِها الخائفة:
-"لا
أدري كيف فرّ الدمُ من رأسه, ولطالما فرّ من رأسي أنا, هل ارتكبتُ جريمة؟! أخشى
أنني قد فعلت! يا ويلي..... ياااااا ويليييي.. وجدت مفاتيح سيارته أمامي, أخذتُها
وغادرتُ البيت, قدتُ السيارة بسرعة جنونية, نعم أعترفُ بذلك, ولم أرَ شيئًا أمامي,
لم أرَ الرجل, ولم أرَ كرسيه.. لم أرَه... صدّقوني!".
القراءة:
نص "صحوة" هو قصة قصيرة رائعة من الأدب
الفانتازي الواقعي , والفانتازيا في الأدب هي الأثر الأدبي الذي
يتحرَّر من قيود المنطق والشكل والإخبار, يسميه تيودوروف
بالفانتاستيك, ويعرفه بأنه" التردُّد الذي يصيب
المتلقي الذي لا يعرف غير القوانين الطبيعية, ويجد نفسه
أمام واقع فوق طبيعي, وهذا التردد هو الذي يخلق
الأثر العجائبي " و يعتمد على إطلاق سراح الخيال,
ويتناول شخصيات غير واقعية وأحياناً غرائبية.
الفانتازيا قديمة في الأدب العربي في الحكايات مثل ألف
ليلة وليلة وغيرها. .
تشعبت الفانتازيا في أواخر القرن العشرين إلى فروع
كثيرة, وتداخلت مع عالم الفن والسينما, ونالت شعبيةكبيرة
بسبب الهروب من عالم الواقع المؤلم الذي يشهد باستمرار
حروباً مدمِّرة وتغيُّرات في تاريخ البشرية جمعاء.
نص"صحوة" قصةٌ حديثة, تشابكت
وتضافرت فيها عناصر القصة القصيرة, من حدث درامي وسرد شيِّق وشخصيات
و زمكانية و حوار, لتنسج حبكة مدهشة تشد المتلقي بدءاً
من العتبة الأولى "صحوة" مروراً بالاستهلال والمتن, حتى لحظة
التنويرالتي انتهت بقفلة درامية عجائبية, حيث نكتشف أن
البطل /السارد كان يحتضر, وأنه سرَد باقي القصة بعدالموت ..
الصراع الدرامي وتنامي الحدث:
نجحت الكاتبة أيَّما نجاح, من خلال التوصيف النفسي
للشخصيات الرئيسية, أن تخلق حدثاً درامياً بكل ما في الكلمة من معنى,
وأن تشدَّ ذهن المتلقِّي بدءًا من الاستهلال حتى القفلة
الغرائبية الدرامية التي كان مسبِّبها الأول ذاك الانفجار الإرهابي,
الذي ولَّد سلسلة مصائب تنامت وتصاعدت حتى وصلت إلى قمة
التعقيد وانتهت بانفراج الحل عن كارثة رهيبة,
أُطلقت فيها آخر خرطوشة على البطل/ الكسيح, بلحظةٍ
عصبية انفلت فيها لاوعي الزوجة,بسبب المعاناة المريرة
التي احتملتها بصبر يفوق صبر أيوب ..
نبدأ بالبطل / السارد الذي ابتدات معاناته عقب الانفجار
الإرهابي لحرم الجامعة, حيث أصابته شظيةٌ أردته
"نصف
بشري, ونصف مشلول" فهو يقول:" سرق الرعب صوتي... إرادتي .. وبعضاً من
ذاكرتي..."ودامت معاناته
عشرين عاماً, لم يبقَ لديه سوى"حوَّائه
المسجونة" تتقاسم معه الحياة بحلوها ومرِّها, وتدلِّك قسمه الميْت"
وحلمها
الوحيد بحدوث المستحيل. وتمر "الصَّحوة" في غيبوبته فيصحو في "رأسه المحتضر" شريط
الماضي التعيس,
ويتخيل أنه"سيعيد ترتيب حياته من جديد" وينزل
إلى أرض الواقع" أرض الطين والماء"
استمرَّت المعاناة النفسية والتصادم بين البطل وزوجته
حتى لحظة الانفراج والقفلة الغرائبية,
التي وصفها السارد/ البطل ب"العبور الأخير"
ومعركةٍ دامية كانت قد نشبت بينه وبين زوجته, أوصلت الوضع, في لحظة
جنون إلى تلك المأساة التراجيدية.
الشخصيةالرئيسية الثانية/ الزوجة, كانت تشهد في داخلها
صراعاً مريراً بين حبها العارم وإخلاصها لزوجها الكسيح
وبين حلمها الجارف ورغبتها ككل بنات "حواء"
أن تتلذذ بأكل التفاحة الحمراء, وتنزل إلى أرض الضجيج وتنجب
"ابن
الطين والماء".
ويبدو أن هناك عراكاً كان يحصل بينهاوبين زوجها الذي
كان يقسو عليها رغم كل تحنانها ومداراتها عجزه,
و كان يضربها بتمثال "أفروديت" / (الرمز
لإلهة الجمال والحب والخصب) و كأنه بذلك ينتقم لذكورته ورجولته
التي افتقدها بفعل الشظية.وهي اعترفت أخيراً بما
اقترفته" لا أدري كيف فرَّ الدم من رأسه,ولطالما فرَّ من رأسي أنا,
هل ارتكبت جريمة؟! يا ويليييي... أعترف بذلك, ولم أرَ
شيئاً أمامي, لم أره صدقوني!".
الشخصيات الأخرى ثانويَّة ,هما الأم والأخت التين
ذُكرتا سريعاًفي النص .
الزمان: اتبعت كاتبة النص تقنية حديثة هي تقنية"الفلاش
باك" حيث تلاعبت ببراعة في زمن القص ما بين الحاضر
والماضي الذي عاد بنا إلى عشرين عاماً خلت, يوم حدث
الانفجار وانطلقت "الشَّظية" التي قلبت حياة البطل رأساً
على عقبٍ... الحاضر هو زمن "الصحوة" صحوة
الموت, والحدث الدرامي المذهل .
فنية اللغة السردية:
- اللغة
السردية لغة شيقة رشيقة العبارة مكثفة, بلغة تقرب أحياناً من الشاعرية, وتحمل إيحاءات ودلالات
ورموزاً وظفتها الكاتبة في خدمة النص.
- دلالة
العنوان " صحوة"
صحوة هو مصدر لفعل "صحا , يصحو, صحواً "
وصحوة هي اسم مرَّة, ومعناها يقظة.
صحا: تعني استيقظ من سباته, ويقال صحا السكران إذا أفاق
من سكره , و"صحا القلب" أي تيقظ من هوىً أو غفلة.
والصحو هو ذهاب الغيم من السماء. الصحوة
في النص هي مجاز توحي للمتلقي بأن يقظة ما ستحدث . وهي لم
تكشف
المتن لكنها ظهرت عندما استفاق البطل المأزوم
و"صحا" بعد فوات الأوان, وبعد فشل كل محاولات زوجته.
- بعض
الدلالات البلاغية على سبيل المثال لا الحصر:
أطبق الصمت بنواجذه وأنيابه على حياتي. (استعارة)
الموت لم يكن جائعاً بما يكفي لابتلاعي ( استعارة)
الصمت/ الأوار ( طباق ) "صمتي
الذي أشعل أُوار ألسنتهم. "
ترفع في وجهي تفاحة حمراء شهية.(ترميز)
تمثال افروديت كدلالة على الهة الجمال والحب والخصب .
يحس المتلقي كأنه يشهد مسرحيةً ,وكأنه يسمع ويُذهل
ويكاد يصرخ, ويعود هذا إلى براعة وصدق الكاتبة في نقل
حدثٍ درامي, اختلط فيه الواقعي بالفانتازي بشكل عجيب مدهش .
الحوار:
للحوار في النص أهمية كبرى في كسر الرتابة والملل من
الحدث, وقد كان الحوار تارة بشكل "مونولوج" يورده السارد/ العليم
بالحدث, وطوراً ينقل ما كان يدور من حواراتٍ بينه وبين
زوجته, وقد جاء الحوار بلغة جد معبِّرة عن الشخصيات.
الأسلوب: تضافرت عناصر اللغة السردية الشيقة وتقنية
الحبكة الغرائبية وحوار الشخصيات بطريقة غير تقليدية,
لتشكل أسلوباً مميزاً وبصمة خاصة للكاتبة, لتلفت وعي
المتلقي للفكرة او الرسالة التي أرادتها هدفاً للنص, فالأدب
ليس متعة فنية وحسب
إنما هو رسالة مقدسة للسمو بالمحتمع من خلال رؤى وأهداف
يتقصدها الأديب او الشاعر ويسعى لبلوغها.
بؤرة النص :
النص دراميٌّ موجع, صوَّر باحترافية عجائبية, زوجين
تعكرت حياتهما واستحالت إلى جحيم يستعر, حاكت الأديبة
المبدعة د. عبير يحيى أحداثه, مركِّزة على السبب الرئيسي
في إتعاسهما, وهو "الانفجار الإرهابي"
الذي تلته كلُّ النوائب اللاحقة..
ولا يخفى ما للحروب والانفجارات من آثار مدمرة على حياة
الشعوب واستقرارها النفسي والمادي, فهي مصدر
القلق الوجودي والتشرد والجوع وفقدان الهوية. للنص
إسقاطات واقعية كثيرة مع أنه صيغ بطريقة فانتازية,
لكنَّ الأديبة البارعة استقت موضوعها من عمق الواقع,
وهي الناقدة الذرائعية التي تؤمن بأن للأدب رسالة
اجتماعية سامية وعلى الأديب واجب تأديتها فنِّياً على
أكمل وجه..
أخيراً : بالغ التقدير والامتنان, للأديبة والناقدة
المبدعة د. عبير خالد يحيى, على هذا النص الرائع الممتع
دام الأبداع أديبتنا القديرة
ردحذف