دراسة ذرائعية مستقطعة للقصة القصيرة ( صحوة)
دراسة ذرائعية مستقطعة للقصة القصيرة ( صحوة)
للقاصة السورية
د. عبير خالد يحيي
بقلم الناقدة اللبنانية صفا شريف
أولًا: النص:
صحوة
لم يصدّقوا أنني سأهبط من عليائي يومًا ما..
صمتي الذي أشعلَ أوارَ ألسنتهم بالرجاء والاستجداء قبل
عشرين سنة, أخمدَها اليوم صوتي الذي انطلق ضعيفًا, ممتطيًا لسانًا ملجومًا,
متكسرًا عند الفواصل, كسيحًا عند النقط :
-"أريد بدلة كحلية, وقميصًا أبيض, وربطة عنق وردية.
أريد عطرًا فاخرًا.
أريد أن أحلق ذقني وشعري.
وسأنزل ...."
لم أكمل كلامي, قوطعتُ باندهاش الوجوه التي تكرمشتْ
وتغيّرتْ سحناتُها, وهربتْ منها الحياةُ هنيهة, كأنها رأتْ شبحًا, وجوهٌ طيبة
تأسّفتُ بيني وبين نفسي أنّني عكّرتُ سماحتَها وصفاءها, زعزعتُ أمنَها, وتمنيتُ لو
أنّني لم أُخرِجْ صوتي من قمقمه.
كانت أمي أول من أخرجتْها (زغرودةُ) أختي من الذهول!
وأعادتها إلى أرض المحسوس, فانطلق لسانُها بعبارات الحمد والشكر لله...
لم أغادرْهم إلّا مُرغمًا, أمي وأخوتي وأصدقائي, كنتُ
على موعدٍ قَدَريٍّ مع صمتٍ كئيب أطبق بنواجذه وأنيابه على حياتي, يوم فاجأني
الموتُ بابتلاعه نصفيَ السفلي وكأنه لم يكن جائعًا بما يكفي لابتلاعي كاملًا,
أدركتُ لاحقًا أنه كان متخمًا بعد أن ابتلع المئات من الأشخاص كاملين في انفجار
إرهابي, وكان حرمُ الجامعة مائدةَ وليمتِه!
انتهيت مشلولًا بفعل شظية هشّمتْ فقراتي القطنية, على
سريرٍ لم أشأ أن أغادرَه!
لم يُغرِني الكرسيُّ المتحرك بركوبه, وسرقَ الرعبُ
صوتي.. إرادتي, وبعضًا من ذاكرتي !.
وبقيتْ هي.. حوّائي..
تراودني عن نفسي, تريدني أن أمتطي صهوةَ الحياة من جديد!
كيف أفعل ذلك؟ وهل تقبل الحياة بأنصاف بشر؟ كيف يكون ذلك وقانون الاصطفاء الطبيعي
الذي يحكمها هو البقاء للأقوى؟! وأنا لستُ قويًّا أصلًا لأدخل في تصنيف القوة! أم
أنها احتفظتْ بنصفيَ العلوي لتضعني في قوائم قوانين المعاوضة؟! أو لعلّي حصّتها من
اتفاقية تقسيم بينها وبين الموت؟! وكلٌّ أخذَ حصّته مني ومضى!.
عشرون سنة وهي مسجونة معي, نأكل ذات الطعام, في ذات
الصحن, ونشرب ذات الشراب, من ذات اليد المغضّنة الحنونة, ننامُ معًا, نتناصفُ ذاتَ
السرير, تدلّكُ نصفيَ الميّت, وكلُّها أملٌ بحدوث المستحيل, أضحكُ من أوهامها, تغضبُ
مني, ترفعُ في وجهي تفاحةً حمراء شهية, قطفتْها ذاتَ غفلةٍ من شجرة كنتُ حدّثتُها
عنها في إحدى حكاياتي, تهدّدُني بأنّها لن تشاركني بها, وأنها ستأكلها بمفردها,
لتهبطَ إلى عالم الضجيج!.
عشرون سنة مضتْ بنا وهي تهدّد, بالأمس نفّذت تهديدها..
غادرتْني..
تركتْ على جدران ذاكرتي المغتصبة رسالةً, فحواها أنها
تريد أن تنجبَ ولدًا من طين وماء! وعلينا أن نهبط إلى أرض الطين والماء معًا !
سبقتْني لتستنهض عجزي, تاركةً ثوبها الوحيد على نصفي الميت, لأدركَ أنها هبطتْ
عارية! وعليَّ أن ألحقَ بها لأسترَ سوءتها!.
على كرسيّ مدولب, وأمام باب العمارة استويتُ بكامل
أناقتي, ببدلة كحلية وقميص أبيض وربطة عنق وردية, أربعيني أودّع شبابي, وأخطو أولى
خطواتي باتجاه الكهولة, تاجٌ فضيٌّ يزيّن رأسي, لا أدري متى ولا من أين اقتنيتُه,
أدركت لاحقًا أنه هديّة الأيام والشهور والسنوات بالتقسيط..شعرة شعرة...
بقيتُ في مكاني, أرتّبُ مراسمَ احتفالية للقادم من
حياتي, وأوزّعُ المهامَ على المحيطين, كلُّهم كبروا, على غفلة من زماني, لا أدري
كيف تمكّنوا من تجاوزي ونسياني على حدود سباتي؟! أم أنّي أنا من تجاوزتهم؟! لا
أدري...!
حالما حسِبتُها قادمة بسرعة البرق في سيارة فارهة,
أمرتُهم بإخلاء المكان إلّا منّي على كرسيّيَ المدولب, ستخطفني حتمًا, لكن بمفردي,
وليس بوجود تلك الحشود, لأنها عارية, خجولة إلّا مني, وثوبُها الوحيد معي, أبيضَ
لم تمسسه أدرانُ الزمن, سألقيه عليها ليرتدَّ إليها العنفوان, سنتزوّج, ويتكوّر
بطنها, وستنجبُ ابن الطين والماء, يرثُ منها عزيمةً يرمّم بها فجواتِ عجزي وقلّةَ
حيلتي, ويرثُ مني أنَفَةً وقوّةً تحميه من ذلّ الاحتياج, وسيرثُ من كلَينا الخوفَ,
نعم.. الخوفُ الذي تسلّل إلى كلِّ خليّة في أعضائنا النبيلة وغير النبيلة, عند أول
خطيئة ارتكبناها, وعُوقبْنا عليها بالطّرد...
إنها تقتربُ بسرعة كبيرة, سأتهيّأ لعناقها لأسترَ
بدنَها بحركة تمثيلية, يااااا قسمتي العادلة, هيا حوااااائيييي...
أنا الآن مسجّى على سريرٍ مدَولبٍ أمام عربة الإسعاف,
وقد استوى الموتُ في كِلا نصفَيَّ, متدثّرًا ببدلتي الكحلية وقميصيَ الأبيض وربطة
عنقي الوردية, وأصواتٌ كثيرة تأتيني من عالم الضجيج, وعويلُ امرأة أزاحتِ الناسَ
من حولي, ووقفتْ تحملقُ بي, غريبةُ الملامح, لم أعرفْها, غطّتْ خطوطٌ حمراء ودوائر
زرقاء مساحاتٍ كبيرة في وجهها, هل كل هذه الألوان أصباغ زينة؟ مهلًا, سأدقق أكثر,
لا لا, سحجاتٌ نازفة وكدمات...! سمحت لبصري أن يبحث عن حوائي في باقي أنحائها,
قبلَ عبوريَ الأخير, فنقل إلى دماغي المحتضِر صورةً لامرأةٍ تمزّق ثوبُها, وتعرّى
الكثيرُ من جسدِها, تصرخُ بهلعٍ:
-" سامحوني, اغفروا لي أرجوكم, كنتُ في عجلة من أمري,
فررتُ من مكان سُجِنتُ فيه عقدين من الزمن, هربتُ من زوجي, بعد أن أمعن كثيييييرًا
هذه المرة بإيذائي, تملّصتُ من بين يديه, ضربتُه بتمثال أفروديت الذي كان يضربني
به كلما لعبَ الجنونُ والسكرُ بعقله".
لم يكنِ الصوتُ صوتَ حوّائي! بل صوتُ امرأة بدأتْ
تلسعُني بسِحاحِ دموعِها, تنشجُ مع كلماتٍ تفرّ منها مع تلاحقِ أنفاسِها الخائفة:
-"لا أدري كيف فرّ الدمُ من رأسه, ولطالما فرّ من رأسي
أنا, هل ارتكبتُ جريمة؟! أخشى أنني قد فعلت! يا ويلي..... ياااااا ويليييي.. وجدت
مفاتيح سيارته أمامي, أخذتُها وغادرتُ البيت, قدتُ السيارة بسرعة جنونية, نعم
أعترفُ بذلك, ولم أرَ شيئًا أمامي, لم أرَ الرجل, ولم أرَ كرسيه.. لم أرَه...
صدّقوني!".
د.عبير.
ثانيا: المستوى
الأخلاقي:
البؤرة الثابتة للنص:
هي قصة الإنسان
بكامل حياته، حياته في دائرة متكاملة: (حب، حزن، ألم، دهشة، انفعال، اجتماع،
علاقات، سياسة.) انبثقت عن هذه البؤرة الثابتة عدة بؤر كونت مشاكل الانسان بكامل
حذافيرها.
النص هو قصة شاب في العشرين من عمره، تعرض إلى حادث
تفجير إرهابي في حرم الجامعة، لم يمت إلا نصفه وبعضا من إرادته وذاكرته، يروي
معاناته الجسدية والفكرية والنفسية، وكذلك العاطفية، عاش حياة ممزوجة بين الواقع
والخيال.
اثارت الكاتبة عدة أفكار نذكرها:
_ نظرة بعض البشر إلى من هو يعد كسيحا ( ذو احتياجات خاصة).
_ حب الأهل الحقيقي ودعمهم في كل الأزمات.
_ الانفجارات الارهابية التي
تطال التجمعات وهنا طالت حرم الجامعة .
_ الحب العاطفي الذي يلطف الحياة .
_ نظرة المجتمع المريضة
_ الأمراض النفسية التي تأتي
نتيجة العزلة على خلاف الطبيعة .
أثارت الكاتبة عبير هذا الموضوع الإنساني الأخلاقي في
أكثر من نص لها، لطالما طالت كتاباتها الجانب الإنساني والأخلاقي في عدة مواضيع
لها، كما تكلمت على الأم وحنانها في بعض نصوصها الجميلة واللافتة، ضمنت البعض منها
رسائل إنسانية واخلاقية.
سأعتمد في نقدي هذا المنهج الذرائعي:
ثالثًا : المستوى البصري:
أولا: المدخل اللساني الجمالي:
من خلال المواضيع التي طرحتها د. عبير وتحدثت عنها، أثبتت
أنها على قدر من الاطلاع والثقافة الواسعة:
1-ثقافة اجتماعية من خلال حديثها عن المجتمع وآفاته، .وهي على
دراية بعلم الاجتماع: تحدثت في نصها عن مشكلة أمنية أدت إلى مشكلة مجتمعية
وبالتالي إلى مشكلة فردية ومن ثم أسرية
الدولة هي التي تضبط الأمن ..قصرت في تأدية واجبها
..فاستهدف التفجير الإرهابي الجامعات، هذه المشكلة العامة تحولت إلى مشكلة فردية
إذ تضرر بطل القصة وأصبح كسيحًا، فقد نصفه الآخر، ومن ثم تشاركت عائلته ..أمه
وأخواته مشكلته الفردية، فتحولت إلى مشكلة أسرية .هذه الثقافة العامة تحتاج إلى
علم ودراية بعلم الاجتماع.
أشارت د. عبير إلى شخصية خفية مريضة وهي شخصية الرجل
الذي حبس زوجته بعد ما استحوذت عليه نرجسيته، وهذا يفضي بالتالي إلى مرض اجتماعي
..أغلب الأمراض الداخلية تؤثر على المجتمع وتتحول إلى مشكلة مجتمعية بامتياز .
٢ - ثقافة
دينية : الكاتبة تملك ثقافة دينية، قصة أدم وحواء، كيف أكلا التفاحة ونزلا إلى
الأرض، عالم الضجيج مثل ما سمياه، وكان عقابهما أنهما نزلا عاريان وبانت لهما
سوءاتهما.
وظفت الكاتبة هذه الثقافة الدينية مستعينة بقصة أدم
وحواء وما تحتويه من عبر في نصها بقولها أن أدم وحواء بقيا في الجنة سعيدان إلى
حين أكلا من التفاحة ..فنزلا إلى الأرض حيث بانت سوءاتهما وهنا أنجبا أولادًا من
طين وماء، فالحبيبة تريد أولادًا من طين وماء ودعته إلى ذلك ..لكنه لم يستجب رغم
تهديدها له ..وأخيرًا نفذت تهديدها، فما كان منه إلا أن استجاب لها وخرج من قوقعته
الخيالية التي حجز نفسه بها، وما إن خرج حتى سلّم النصف الثاني إلى الموت الذي
ابتلع نصفه السفلي في المرة الأولى.
٣- ثقافة علمية:
ظهرت ثقافتها العلمية من خلال مفردة افروديت / من هي :
هي إلهة الحب، إلهة من الأساطير اليونانية الاثني عشر، وتعد ربة الجمال والحب
والشهوة لم تستحضر الكاتبة عبير هذا المصطلح من فراغ، كانت على علم وثقافة
بالأساطير ..ووضعته بخفة وبراعة في النص: ( ضربته بتمثال أفروديت الذي كان يضربني
به كلما لعب الجنون والسكر بعقله) ..أي الشخصية الثانية التي تعتبر موازية للشخصية
الرئيسة التي نقدت من الاضطهاد الذي تعرضت له لمدة عقدين من الزمن ..مثل الشخصية
للرئيسة الذي سجن نفسه على السرير لمدة عقدين من الزمن، الفارق الوحيد بينهما هو
سجن نفسه بيده، وهي سُجنت غصب عنها، سجنها زوجها بحجة الحب ..وكان يضربها ليروي
نشوته المريضة، زوجها إنسان مريض نفسيا، مليء بالأمراض الفكرية والنفسية، هذه
الرغبة في التملك والأنانية المفرطة أوصلته إلى أزمة حقيقية بينه وبين زوجته، هذه
النرجسية هي مرض نفسي، أفضت إلى مرض اجتماعي، سيتأثر المجتمع حتمًا به، والكاتبة
عبير أوضحت ذلك، فالزوجة المعنفة بهذا التمثال الذي ضربها به وطوال عشرين سنة، شكل
عندها ردة فعل أنها ثارت وضربته به ولم تكتف بل قادت السيارة بجنون دون وعي
وبالتالي قضت على حياة أخرى في طريقها.
العنف يولد عنف، العنف يقضي على الوعي ويضعه من زاوية
مظلمة، فينتهي التفكير وتعمى البصيرة ..فيتحول الإنسان إلى شخص غير مسؤول عن
تصرفاته، فتصبح همجية غير واعية .
٤-ثقافة نفسية: وظفت هذه الثقافة في حديثها عن مرض الكآبة
..ومرض حب التملك( النرجسية)، العقد التي تنشأ جراء المعاملة السيئة ..الكاتبة
درست كل شخصية نفسيا واجتماعيا، وأن المرض النفسي أغلبه ناتج جراء شيء خارجي، أي
مؤثر خارجي له إجابة داخلية تتحول إلى عقد إن لم يتم التدخل في الوقت المناسب،
وأغلب الأمراض النفسية كذلك .
البطل الأول بفعل الانفجار تحول إلى شخصية كئيبة
متقوقعة رافضة واقعها ..تفضل العيش في الخيال.
الشخصية الموازية لها وهي المرأة التي اختارت قدرها
بيدها، تزوجت شخصًا غير
مسؤول ولم تستطع النجاة منه إلا بعد أن حطمها نفسيا وجعلها جسدا بلا روح، مليئة
بالعقد، متزعزعة نفسيا ..وغير واعية لتصرفاتها .
الإنسان هو روح وجسد، الجسد بحاجة إلى الأكل والشراب
والحركة وبعض الاهتمام ليبقى متوازنًا ..والروح تحتاج إلى الراحة والأمن والأمان،
والحب والعاطفة والدين وكثير من الأشياء لتبقى نفسًا سوية وإلا ستمرض مثل ما يمرض
الجسد وأمراضها كثيرة: وهنا أشارت الكاتبة إلى أمراضها، وضمنت نصها رسالة خفية
مفادها ..يجب العناية بهذه الروح كما هي العناية بالجسد.
ثانيا: البنية اللغوية :
سيطر معجم الألم على النص من بدايته وانتهى فيه، تخلله
معجم الضعف والفرح ليعود إلى الألم :
معجم الألم: ( عكرت، زعزعت، صمت كئيب، انفجار ارهابي،
سرق الرعب صوتي، انتهيت مشلولا، الموت، عويل امرأة، تصرخ بهلع، يضربني، ضربته،
عربة اسعاف، دموعها، فر الدم( .....
معجم الضعف: ( ضعيفا، متكسرا، كسيحا، عجزي، قلة حيلتي،
الاحتياج، تهددني، اربعيني أودع شبابي، الخوف، خطيئة ارتكبناها....)
معجم الحب: ( زغرودة، صفاءها، وجوه طيبة، أضحك، اليد
المغضنة الحنونة، أفروديت، أبيض، حمراء شهية، عطرا فاخرا، ربطة عنق وردية.. )
هذه المعاجم الثلاثة جعلت النص يمر بثلاث مراحل، هذه
المراحل تشبه حياة الإنسان ..يولد بصرخة ألم ويغادر بصرخة ألم وبين الألم والألم
يتخلله ضعف وفرح ..هذه هي حياة الانسان بكل حذافيرها، بداية بارتكابه الخطيئة
ونزوله إلى أرض الماء والطين، مرورًا بالألم الذي سيتكبده في هذه الحياة مرورًا
بقليل من الفرح والضعف .
تخلل هذه البنية السردية بنية حوارية داخلية طرفاها،
الشخصية الرئيسة ( الرجل الكسيح) والقارئ...طرحت الكاتبة في هذه البنية على لسان
الشخصية الرئيسة أسئلة استفهامية شاركت القارئ فيها ألامها وأحزانها، هذه المشاركة
بنت علاقة مميزة مع القاريء ..شدته واستحوزت على تفكيره، من خلال الجمل الطلبية
الاستفهامية والتعجبية التي طرحتها عليه: استخدمت عشرين جملة غير طلبية تفيد
التعجب، ست جمل طلبية تفيد الاستفهام، أربع جمل طلبية تفيد النداء، هذه الجمل التي
تشير إلى عاطفة الكاتب، التعجب من الواقع الموجود وطرح أسئلة لإعمال العقل ومشاركة
القاريء والإضاءة على الأفكار الرئيسة، وصولا إلى النداء الذي يشكل أعلى درجة
الانفعال، هذه الانفعال المرتبط بالألم الموجود في هذا النص، كما استخدمت الكاتبة
جملة واحدة إنشائية طلبية تفيد التمني : ( تمنيت لو أنني لم أخرج صوتي من قمقمه)
يذكرنا هذه التمني والندم بتمني مريم العذراء عندما أجاءها المخاض وهي إلى جانب
النخلة قالت: (يا ليتني مت قبل هذا) هذا التمني لا نملك منه شيئا، هو قدر كُتب
لنا، وما علينا إلا أن نمشي فيه مخيرين وميسرين في نفس الوقت .
ثالثا: التراكيب :
التراكيب التي استخدمتها الكاتبة متنوعة ولا حصر لها،
الضمائر المتصلة هي الغالبة ..الدالة على الشخصية الرئيسة: ( تأسفت، تمنيت،
انتهيت، أدركت، استويت..) .والضمائر المستتره الدالة على الفاعل : ( أضحك، أشأ، الحق، أمتطي، أدرك، أوزع.، أريد ) .
الفاعل موجود وهو الذي يتحدث ويروي قصته خالطا بين
الواقع والخيال، مستخدما السرد تارة، والمونولوج تارة أخرى، مشركا القاريء معه في
عدة حوارات ..طارحا أسئلة اجتماعية، ثقافية ..فلسفية: ( كيف تمكنوا من تجاوزي
ونسياني على حدود سباتي؟ أم أني أنا نت تجاوزتهم؟! فلسفية بامتياز ..هو على حدود
السبات والزمن مستمر، هل الزمن عليه أن يتوقف لتوقفه؟ أم فعلا نسوه؟ / أسئلة تحاكي
واقع الإنسان الذي ينسى ، النسيان جزء من شخصيته وإلا لا يستطيع الاستمرار في هذا
الوجود.
بدأت الكاتبة نصها بالمضارع المجزوم وما يحمله من دلالة
قلب الزمن،( لم يصدقوا)..وكذلك أنهت نصها أي قصتها بالمضارع المجزوم: ( ولم أر
كرسيه، لم أره..صدقوني !)
بدأت بالدهشة وأنهت بالألم ..هكذا هي حياة الإنسان
..نسعد عند ولادة الطفل وتجتاحنا الفرحة ..في حين نحزن عند الفراق ونتألم .
بنية النص سليمة، أغلب الجمل تامة الأركان: لم يصدقوا
أنني سأهبط من عليائي يوما ما ) فعل وفاعل والمصدر المؤول من أن ومابعدها ناب مناب
المفعول به، والجار المجرور متعلقان بالفعل سأهبط، وبعدها ظرف المكان، جملة كاملة
لا حذف فيها ..تامة الأركان.
(صمتي الذي أشعل أوار ألسنتهم بالرجاء والاستجداء قبل عشرين سنة )
صمتي مبتدأ والياء مضاف إليه، الذي اسم اشارة مبني في محل رفع خبر، أشعل: فعل ماض
وفاعله مستتر، أوار مفعول به، ألسنتهم : مضاف إليه، بالرجاء، جار ومجرور، .. )
بنية سليمة أصيلة، لا تبديل ولا انحراف من حيث اللغة،
الأفعال في المجمل معلومة، الغلبة للمركب الإسنادي الفعلي، لأن النص له قصدية
حركية، لها غاية التفعيل ..اليقظة .
• هناك
مركبات إضافية: ( هدية الأيام، ثوبها الوحيد، حرم الجامعة، نصفي السفلي، فقراتي
القطنية، عالم الضجيج، عربة الاسعاف)
• مركبات
إسنادية: (استوى الموت، انطلق لسانها بعبارات..، فاجأني الموت، انتهيتُ مشلولا،
استويتُ.) لكن ما نلاحظه أن الفاعل في أغلب الجمل جاء ضميرا سواء متصلا أو مستترا،
أفعال كثيرة جاءت مجزومة بلم، : ( لم يصدقوا، لم أكمل، لم يكن، لم أر( تكررت أربع
مرات في المقطع الأخير)، لم أغادرهم، لم أشأ، لم يغرني، لم يكن ( تكررت مرتين)، لم
أخرج، لم تمسسه، لم أعرفها) هذه الأفعال المجزومة تشير إلى الواقع المأساوي في
النص
هناك الكثير من الاخبار الابتدائي والطلبي والإنكاري، تزاوجت
الجمل الخبرية والإنشائية، والجمل الإسمية والفعلية، لم يشعر القارئ بالملل أبدًا
بل بقي مشدود الأعصاب، مترقبًا النهاية التي كانت أكثر دموية وأعمق حزنًا.
ثالثا: البنية الجمالية :
النص مشحون بالصور البلاغية: تشابيه واستعارات، وتعابير
مجازية.
_ صمتي
الذي أشعل أوار ألسنتهم: شبهت غير محسوس بمحسوس، الصمت هو غير محسوس وملموس، شبهته
الكاتبة بالشعلة: الصمت هو الذي أشعل أوار ألسنتهم بالدعاء.
_ صوتي
انطلق ضعيفا، أخمدها صوتي، ممتطيا لسانا ملجوما،.متكسرا عند الفواصل..: كلها صور
بيانية، استعارت الكاتبة فعل انطلق وفعل أخمد، وفعل الامتطاء من الانسان، وحذفت
الانسان وكنيت به بهذه الافعال المنتمية له .
_ سرق
الرعب صوتي: الرعب أصبح سارقا، رغم هيولته وغير محسوسيته، وماذا سرق ..سرق شيئا
غير محسوس كذلك هي استعارة، استعارت فعل سرق من الإنسان، وحذفته وكنيت بشيء له.
امتطى صهوة الحياة: تعبير مجازي ..شبهت فيه الكاتبة
الحياة بالحصان لأنها تستمر ولا تتوقف مثله، تنطلق مسرعة دوما، ثم حذفته وتركت
شيئا من اغراضه (صهوة).
_ تاج
فضي يزين رأسي: كناية عن بياض شعره كله. دخول مرحلة الكهولة .
_ صوت
امرأة بدأت تلسعني بسحاح دموعها: استعارة، استعارت الكاتبة فعل تسلعني للدموع من
الحيوان ( الأفعى) ، الأفعى هي التي تلسع، الدموع أصبحت هي التي تلسع وذلك جراء
حرقتها، وكذلك السم يحرق .
)_ استوى الموت في كلا نصفيّ، متدثرا ببدلتي الكحلية ..)
استعارت الفعل تدثر من الانسان وحذفته، استعارة مكنية ، وكأن الموت إنسان يتدثر
بالبدلة.
_ الخوف
الذي تسلل: استعارة ..استعارت للخوف فعل تسلل من الانسان وحذفته وتركت شيئا من
أفعاله ، استعارة مكنية.
_ لم
يغرني الكرسي المتحرك بركوبه: استعارة، استعارت للكرسي فعل الاغراء الخاص بالانسان.
_ فاجأني
الموت بابتلاعه نصفي، وكأنه لم يكن جائعا، ..أدركت لاحقا أنه كان متخما بعد ما
ابتلع المئات: استعارات، استعارت الكاتبة فعل( فاجأ) من الانسان وشبهته بالانسان
الجائع ( كأنه ) والمتخم الذي بلع الكثيرين .
نلمس من خلال هذه التراكيب البلاغية انزياح في أسلوب
الكاتبة، استخدمت مفردات في موضع غير الموضع الذي وضعت له، ألبستها دلالات جديدة :
الصوت امتلك قوة واقعية رغم قوته الفكرية، الصوت مهم جدًّا فهو الذي يعبر عن
التفكير وعما يجول في داخل الإنسان، هو الوسيلة المعبرة لما يختلج في الصدور من
حزن وألم وخوف وقوة، وهنا استعارت الكاتبة الأفعال من الإنسان ومنحته إلى الصوت
المحرك الأساسي في النص، هذا الصوت الذي انطلق جراء صحوته من سباته وحرك الأسرة
وانطلق مع التغاريد ثم حاول امتطاء صهوة الحياة لكن الحظ لم يكن حليفه..مجرد ما انطلق
مسرعا متلبسا النداء ..حتى انطلق عويل المرأة أي إلى الصراخ من جديد ليدل على
الموت..بدأ بالحياة وانتهى بالموت .
رابعًا: المستوى المتحرك:
نبتدأ من العنوان: صحوة، ما معنى صحوة؟ وما
نوعها؟
اسم المرة من الصحو،
1- صحوة النائم : يقظته.
2- صحوة النهار : ارتفاع النهار، يعانق وجه الشمس. أي
مرادفها سماء صافية لا غيم فيها، والمعنى الأول اليقظة.
أنواعها كثيرة: هل هي يقظة حقيقية ( استيقظ صباحا)، أم
هي صحوة فكرية أم ثقافية؟
بدأت الكاتبة نصها بالدهشة، أي انفعال، هذه الحركة كانت
بعد سبات دام عشرين سنة، بدأ البطل يروي قصته منذ البداية كيف تعرض لحادث إرهابي،
جعله كسيحًا، مرميًّا في غرفته، بعد ما قضى على الكثيرين في حرم الجامعة، يروي
الراوي حياته الخيالية التي أمضاها مع حبيبته حواء طوال عشرين سنة، ولم يستيقظ إلا
بعد ما أكلت التفاحة وسبقته إلى عالم الماء والطين، استيقظ من سباته وتحرر من
صمته، ليعود مرة أخرة إلى خياله إلى عليائه لكن هذه المرة مع جسده، سيغادر جسدًا
وروحًا، وبعد مغادرته بقي مكملا لسرده، ووصف المرأة التي صدمت جسده، هو راو مشارك،
ابتدأ بالسرد أولًا ووصف دهشة أسرته، والتفجير الذي قضى على نصفه، ومن ثم الحادثة
التي قضت على البقية فغادر روحًا وجسدًا، واصفا سلوك الشخصيات ككل، متحدثا عن
عاطفته وعاطفتهم، مرورًا بالحالات النفسية لكل من الشخصيات المذكورة.
الشخصيتان الرئيسة هما:
الشاب الكسيح، المرأة التي هربت من زوجها، شخصيتان
متقاربتان، الشخصية الأولى تعرضت لحادث عنف، ودخلت بسبات، وعزلة داخليه لمدة عشرين
سنة، ولم تخرج إلا قصرا، لتعود مرة أخرى إلى السبات الأبدي .
الشخصية الثانية: المرأة التي تعرضت للعنف، فدخلت كذلك
في سبات نفسي من الذل والهوان لمدة عشرين سنة، لتثور فجأة وتحاول الخروج فتعود مرة
أخرى إلى المرض النفسي واللوم والعتب، محملة نفسها ما لاتحتمل .
شخصيتان تسيران بشكل دائري، وما بين الشخصيتان الأولى
والثانية هناك الشخصيات الثانوية،: والدة الكسيح واخواته، زوج المرأة الظالم،
هؤلاء شخصيات حقيقيات، بينما المرأة التي هام بها الشاب وبقيت معه عشرين سنة، لا
تفارقه، كانت امرأة هلامية، من نسج خياله، كانت تتلبس أمه عندما كانت تطعمه، فيرى
في يد أمه الحنون المرأة التي كان يحلم بها، ذكرني هذا الموقف بحب الشاعر بدر شاكر
السياب لقريته جيكور ومغازلته إياها كأنها حبيبته، أو كأنها أمه؛ المفارقة هنا أن
حبه هنا للحبيبة ولأمه الحنونة وهناك عند بدر شاكر السياب هي لأمه الأرض، لأن مما
يبدو أنه كان بعشقها قبل تعرضه للحادث, وهذا ما جعل عقله يبقيها في خياله، ليشبع
من ذكرياته، هي صورة خيالية عن واقع امرأة أحبها فعلًا، فهو ما إن استيقظ، فكر
فيها وبالذهاب لخطبتها كي ينجب منها أولادًا من طين وماء.
وبالمقابل زوج الشخصية الثانية أمعن في إيذائها وضربها
بمضرب الحب والشهوة وحب التملك، وبدافع ظاهر هو الحنان.
اليد المغضنة الحنونة= تمثال أفروديت.
مع الشخصية الأولى ارتبطت الحبيبة مع الأم باليد
الحنونة، مع الشخصية الثانية كان الزوج يضربها بتمثال آلهة الحنان، فضربته فيه.
يختلف الحنان مع الشخصيتين اختلافًا واضحًا.
• زمان
السرد ومكانه متقاربان، الزمان هو طوال عشرين سنة، بينما زمن السرد هو لحظة حدوث
الحدث المبدل ( حادثة الاصطدام) المكان في البيت وبعدها في الطريق للشخصيتين، الطريق
هو المكان الأساسي للحدث.
• البناء
السردي للنص كان بمثابة خطان خط أفقي متعارض مع خط عامودي:
١_ الخط عامودي للشخصية الأولى: هبط من عليائه ثم عاد وصعد
في عبوره الأخير.
٢_ خط أفقي للشخصية الثانية: هربت من المنزل ثم حتمًا
ستعود إليه، إلى حبسها الانفرادي.
تعارض هذان الخطان والتقيا في حادث أليم أدى إلى تعارض
بينهما وإلى تغيير المسار لكلا الشخصيتين: هو عاود الصعود بعد ما هبط، وهي عاودت
الرجوع إلى المنزل أو السجن, المهم إلى الغرفة التي خرجت منها. الاثنان كانا في
سجن لمدة عشرين سنة، خرجا واصطدما ثم عادا إلى ما كانا عليه، وهنا في هذه اللحظة : بدأ الزمن الحقيقي للحدث، هو اللحظة التي التقى فيها
هذان الخطان، (الحادث الأليم)، جراء هذا الحدث أتى الانفراج، الانفراج عند الشخصية
الأولى هي العبور إلى عالمه الخاص، أي موته على أرض الواقع، والانفراج للشخصية
الثانية هي نقطة تحول إلى المزيد من المشاكل جراء الحادث.
• هناك
ثنائية ضدية اعتمدت عليها الكاتبة في مسارها :
سأهبط# أحلق/ شبابي# الكهولة.
أشعل# أخمدها/ ضعيف# القوة/ الحياة#
الموت/ جائعا# متخما/
أضحك# دموع/ تصرخ# صمتي/
متدثرا# عارية/ تعري# لأستر/
الخوف# عزيمة/ سألقيه# ليرتد/
النص مشحون بالكثير من الثنائية الضدية، بالإضافة الى
الرموز التي حملت عدة دلالات وسيميائيات مختلفة:
١_عالم الضجيج: قصدت به الكاتبة عالم الدنيا، عالم الصخب .
٢_ طين وماء: المقصد خلق أدم ، خلق من ماء وطين.
٣_ أفروديت:
إلهة الحنان ورمز الحب والشهوة.
٤- عليائي: هنا حملت دلالة أنه كان في جنته، كان في الجنة
العليا، وليس الكبرياء.
٥_ أوى خطيئة ارتكبناها: هي عندما أكلا من الثمرة التي
نهيا عن الأكل منها .
٦_ عبوري الأخير: موته الجسدي والروحي معا:..، موته،
انتقاله من عالم الدنيا إلى عالم الأخرة .
هذه العبارات التي احتملت دلالات أخرى، شوقت القارئ
لاكتشاف المزيد عند قراءته للنص، عصرت قلبه حزنًا وألمًا لما حدث من أحداث مؤلمة،
وهزت أوتاره الحساسة اتجاه قضية الوجود، طالما أنت إنسان حتمًا ستمر بمرحلة العبور
الأخير، وستختبر الحب والألم والعطف وكل المشاعر الإنسانية الفريدة ..
أسلوب الكاتبة المميز في هذا النص الغني دلاليًا،
المشحون عاطفيا، المتعارض نفسيا، نجده قد عبر عن فرادة، وعن تمكن لغوي، ونحوي،
وثقافي، واجتماعي.
خامسا: المستوى النفسي:
المدخل الاستنباطي interence andempathy theory
هذا النص قصة قصيرة فانتازية، زاوجت فيها الواقع
بالخيال، وضمنتها د.عبير رسائل إنسانية للمجتمع، حثت المجتمع فيها على الاهتمام
بمن هم محتاجون، بمن هم تعرضوا لفقد أعضائهم، يجب أن يكون هناك أخصائيون نفسيون
لمثل هذه الحالات، لتخرجهم من حالتهم، كما نرى أن بطل النص قد تعرض لحادث تفجيري
ودخل على إثرها في كآبة لم تدعه يغادر سريره أبدا، تمسك فقط بحب أهله، وبحب خيالي
داخل أحلامه، لم يفكر مغادرة السرير ولا الخروج إلا لسبب هز كيانه وصحاه من ثباته،
هناك حالات مماثلة وشباب تعرضت لحوادث وتم فقد أعضاء من أعضائهم لكنهم لم تتعرض
لأمراض نفسيه، تخطت واقعها وانخرطت في المجتمع الذي يدمجهم فيه بكل محبة وفخر.
ركزت د.عبير على آفات المجتمع الواقعي الذي نعيش فيه:
مشكلاته وإشكالياته : تفجيرات، عنف أسري، تخلي دولي، ظلم، أمراض نفسية..ويا ترى
الاشكالية هنا..هل الدولة تهتم؟ هذه الآفات نتيجة تخلي الدول ...فتنتشر الرذائل،
ويكثر الجهل والانخراط بمنظمات ارهابية، والعنف المنزلي الذي يحصد النساء جراء
انتشار الخمر والمخدرات، غياب الدين في مثل هذه الساحات.
هذا البطل الذي قضت عليه الرومانسية بشكلها الكامل،
جعلته يخلط بين الواقع والخيال ..بل يعيش في الحلم لبرهة ويستيقظ على واقع قتله،
ليعود إلى ثباته من جديد .
سنتحدث عن الحكم والمواعظ التي ضمتها د. عبير في نصها:
الأمل وعدم اليأس : وهنا اليأس ظهر عند عدة شخصيات:
• الحالة
الأولى: كانت مع الشخصية الأولى: البطل نفسه، هذا البطل الذي دخل في مرحلة اليأس،
بعد تعرضه لحادث التفجير وخسرانه قدميه، استسلم وعزل نفسه عشرين سنة ، عشرين سنة
وهو نائم في الغرفة بسبات ، لدرجة أنه عندما خرج لم يتعرف على بقية أفراد عائلته
بسهولة، حيث قال: ( كلهم كبروا على غفلة من زماني، لا أدري كيف تمكنوا من تجاوزي ونسياني
على حدود سباتي؟! أم أني أنا من تجاوزتهم؟! لا أدري ) هذا دليل على اعتزاله افراد
أسرته، وكأنه في سباته، هربت منه الأيام ولم يكتشف ذلك حتى رأى أفراد
عائلته...وهذا نتيجة اليأس والدخول في مرحلة الكآبة والثبات، ركزت د. عبير على هذه
النقطة الأساسية في حياة الانسان وضمنتها موعظة خفية، على الإنسان أن لا ييأس وإلا
سبقه الزمن وهو على غفلة، وسيعيش في عالم خيالي واسع، وسيصل إلى مرحلة الخلط بين
الواقع والخيال.
• حالة
اليأس الثانية التي تحدثت عنها الكاتبة: حالة الأم : هذه الأم المسكينة التي أصيبت
في ابنها، فقدت أملها في خروجه من حالته، إلى حين قال لها بصوت خافت جدا : ( أريد
بذلة كحلية وقميصًا أبيض، وربطة عنق وردية....وسأنزل ) هذه العلياء الذي حبس نفسه
فيها ظنًا منه أنها الجنة، قرر مغادرتها إلى عالم الضجيج، أمه لم تصدق انتابها
الاندهاش وبقيت هادئة...لدرجة أن وجوه البعض تكرمشت وتغيرت سحناتها، ولا ندري إن
كان فرحا أم حزنا! زغرودة أخته أعادت أمه إلى الواقع الحقيقي، دهشتها كانت جراء
يأسها، لم تكن تصدق أن ابنها سيتحدث ليقول لها سأخرج من عزلتي، كانت يائسة، لكن
الأمل بقي موجودا دوما .
• حالة
اليأس الثالثة
الزوجة المعنفة : هذه الزوجة اليائسة بقيت عقدين من
الزمن تحت وطأة العنف والتغذيب من رجل سكير ومجنون، لماذا بقيت كل هذا الوقت؟ لو
ما تسلل إليها اليأس في هذه الأيام لم تكن صابرة كل هذه الفترة، وعلى ماذا صبرت؟
على آذاه ولماذا؟ كان عليها تركه وبسرعة...لكنها قررت الخروج من يأسيها وقت وجدت
مفاتيح السيارة أمامها وإلا كانت لتبقى ، هذا اليأس أوصلها إلى مشكلة أكبر، وجنون
وتهور، العنف يولد عنف، لأنها سارت على خير خطى وبهمجية وسرعة وبحالة من اليأس .
مواعظ نفسية وأخلاقية وإنسانية وضعتها الكاتبة بين
السطور .
المدخل العقلاني:
استخدمت الدكتورة عبير التناص البلاغي بشكل مميز فعلا:
# تراودني
عن نفسي: تناص مع قصة يوسف عليه السلام مع زليخة، وكيف راودته عن نفسه ولما وجدا
سيدها لدى الباب قال له: هي راودتني عن نفسي، وهنا د. عبير قالت على لسان البطل أن
حبيبته راودته عن نفسها.
# قصة
أدم وحواء
تناولتها د. عبير بطريقة مختلفة في قصتها، وكأن عزلة
البطل هي بمثابة مكانه الطاهر والواقع هو العالم المليء بالضجيج، لأن حبيبته حواء
سبقته إلى عالم الضجيج اضطر إلى ترك مكانه الهادئ ليلتحق بها، هي حواء التي سبقته
في أكل التفاحة وسبقته بالهبوط،
عوقبا بالطرد لأنهما ارتكبا الخطيئة، طردا من المكان
الهادئ، حيث السبات كان، نزلا إلى عالم الضجيج حيث الطين والماء، كانا هلامين
# تناص
من قصة يوسف عليه السلام، عندما أعطى أخوته رداءه وقال لهم أن يلقوه على وجه
أبيهم، ذكر في القرآن الكريم:
قوله تعالى : اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ
عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ //
قالت د. عبير: سألقيه عليها ليرتد إليها العنفوان: تناص
بلاغي، ألقوه..يأت
هي استخدمت نفس الأسلوب: قالت سألقيه..ليرتد .
استطاعت الكاتبة عبير من خلال براعتها في السرد،
وقدرتها على إثارة العواطف والانفعالات، من تقديم هذه القصة القصيرة وبعدد قليل من
الكلمات قصة حياة الإنسان بكل حذافيرها، حياته كاملة من فرح وحزن وحب وعمل
وسلوك...، مستخدمة مفردات قابلة للتأويل، مزاوجة بين الجمل الإنشائية والخبرية كي
تضفي حيوية على النص، معتمدة على جزالة اللفظ، ومتانة التراكيب، وجمال الصور
البلاغية، منتقية مفرداتها وألفاظها بعناية وتآلف لتكوين الجرس الموسيقي، لاوجود
للكلمات المنفرة، معبرة عن المشاكل الموجودة في المجتمع، هذه الطريقة الفنية في
التعبير تمنح الكاتبة عبير ميزة إبداعية، وذلك من خلال تجاربها وخيالها الواسع،
وعاطفتها المتدفقة.
نص فانتازي بامتياز ..جميل جدًا .
تحياتي .
تعليقات
إرسال تعليق