المظاهر السردية وعنف الزمن الكوروني في رواية " الجسد الجريح زمن كورونا" للأديب المغربي " المصطفى الزواوي" - دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقد الذرائعي المغربي عبد الرحمن الصوفي
المظاهر السردية وعنف
الزمن الكوروني في رواية" الجسد الجريح زمن كورونا" للأديب المغربي " المصطفى الزواوي" .
دراسة نقدية ذرائعية المستقطعة من
إعداد : عبدالرحمان الصوفي / المغرب
.
أولا -
التقديم :
منح الحجر الصحي فرصة للكثير من الكتاب لجمع شتات أفكارهم
وتدوينها ، حيث أصبحت أحلام اليقظة مصدرا للأفكار الواعدة والخلاقة . كما أن قضاء
وقت طويل في المنزل يصيب الإنسان بالملل الذي يمهد لشرود ذهني يساعد ويسمح للخيال بأن
يحلق في عالم التأمل لابتكار و صياغة أفكار جديدة ، لأن التفكير هو عملية ذهنية
تحدث عند المبدع حين يكون متفرغا وغير منشغل بإنتاج آخر . والمعروف في تاريخ الأدب
الإنساني أن الأزمات تولد الإبداع ، أي أن الإبداع يصير السبيل الأوحد لمواجهة
الأزمات بمختلف تجلياتها سواء سياسية او اقتصادية أو اجتماعية ... خلال الكثير من الأزمات
التاريخية حدث زلزال في الذات الإنسانية ، فولد عصفا ذهنيا عند الجماعات والأفراد
، صار فيها الإبداع هو الملاذ
والحل الأمثل لتخليص الناس من الأزمة .
لقد كان الأدب دوما مرافقا للبشرية في كل أزماتها ، وأزمنتها
الحضارية عبر مد العصور ، يسجل طموحاتها ، ويؤرخ لمعاناتها وأفراحها ، ويستشرف
مستقبلها ، ويرصد أحلامها ، ظل مرآة لما عاشه وعايشه الإنسان من اضطراب وفوضى
داخلية أو خارجية ،
ولذلك كان الأدب ، شعرا ورواية ومسرحا وقصة وغيرها ،
دوما رفيقا لمعاناة الإنسان .
لقد اشتهرت الرواية خصوصا بتعاطيها مع ما أصاب الإنسان
من كوارث وأحداث ، خاصة تلك المتعلقة بالأوبئة والأمراض المعدية ، منها روايات
عالجت مأساة الإنسانية ومعاناتها وحربها ضد أوبئة فتاكة قهرته ، وحصدت الملايين من
الأرواح ، نذكر منها " حكايات كانتربري " ، التي كتبها جيفري تشوسر ( وباء الطاعون ) ،
ورواية " دفتر أحوال عام الطاعون " التي كتبها الإنجليزي دانييل ديفو ،
ورواية " حصان شاحب ، فارس شاحب "التي أصدرتها الروائية الأمريكية
كاثرين آن بورتر وروايات أخرى كثيرة أشهرها " الحب زمن الكوليرا . في هذا
السياق نطرح الأسئلة التالية :
- هل هناك
إبداع زمن أزمة كورونا ؟
- وهل يمكن
أن بكون هذا الإبداع زمن كورونا إبداع لمواجهة الأزمة ؟
- وهل الأدب
زمن كورونا يساهم في إدارة الأزمة ؟
هذه الأسئلة وغيرها ستكون موضوع دراستنا النقدية الذرائعية المستقطعة .
ثانيا المدخل البصري لرواية " الجسد الجريح في زمن كورونا " .
رواية " الجسد الجريح في زمن كورونا " ( 1 ) رواية جديدة للروائي " المصطفى الزواوي " ، تتألف من ثلاثة فصول توثق لجائحة كورونا ، التي اجتاحت العالم مطلع السنة الجارية ، وغيرت معالم الحياة على كوكب الأرض .
الرواية من الحجم المتوسط تضم ثلاثة فصول ، غير معنونة .
الفصل الأول يمتد من الوحدة السردية ( 1 ) إلى الوحدة السردية ( 7 ) ( الصفحة 74 )
.
الفصل الثاني / الصفحة
( 75 ) تتوسطها لوحة لفيروس كورونا وقد أصابت جسدا إنسانيا ، ثم يبدأ من الوحدة السردية ( 8 ) إلى الوحدة السردية ( 14 ) /الصفحة 136 . الفصل
الثالث / الصفحة ( 137 ) تتوسطه صورة
بالأبيض والأسود لفيروس كورونا منتشرا في
جميع ارجاء الكرة الأرضية ، يمتد الفصل الثالث من الوحدة السردية ( 15 ) إلى الوحدة
السردية ( 21 ) / ( الصفحة 200 .
الواجهة الأمامية لغلاف الرواية تتوسطها لوحة تشكيلية من
إبداع " محمد الرجاوي " . أما الواجهة الخلفية للغلاف فتضم صورة المؤلف
وسيرته الذاتية ، إلى جانب اختيار قرائي من الرواية ، وهو كما ما يلي : " شهد العالم منذ دجنبر 2019 اجتاح فيروس
كورونا " كوفيد 19 " انطلاقا من وهان الصينية التي احتجز فيها التاجر
رشيد المتزوج بصينية من نفس المدينة واضطر إلى مغادرتها بسبب الحجر الصحي ، الذي
فرض بسبب انتشار الوباء في العالم ...
في ظل هذه
الجائحة كلف المحقق اسحاق بإنجاز تحقيقات ودراسات على تطور الفيروس والوباء ، وما
فرض على الجسد الجريح به ... منه من أصيب به ونجا من الموت زمنه من لقي حتفه
...بسبب هذا الوباء ارتسمت خريطة عالم جديد وتصورات جديدة للعام ...قضي على
الفيروس أم لا ... سيظل الجسد القوي والمانع أو الجريح الهش في مواجهة دائمة لخطر
الوباء بعد كل فترة من الزمن..." .
ثالثا - السيرة الذاتية للمؤلف " المصطفى الزواوي " :
- أستاذ علم
النفس وعلم الاجتماع والتواصل سابقا
.
- كاتب صحفي
في جرائد وطنية ودولية ومدير نشر ورئيس تحرير جريدة جهوية .
- صدر له
كتاب " الرياضة ورهانات التنمية البشرية سنة 2019
.
- مخرج
فيلم وثائقي حول " أوصيكا ورهانات فوسفاط آخر " / حائز على جائزة المجمع
الشريف للفوسفاط بالمهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بمدينة خريبكة سنة 2017
.
- منشط سوسيو - ثقافي .
رابعا – العتبة / العنوان : الجسد
الجريح في زمن كورونا
فمعظم الأخصائيين في الصحة النفسية يؤكدون أن الحجر
الصحي الذي فرض على أكثر من مليار شخص حول العالم بسبب جائحة فيروس كورونا ، ليس
أمرا سهلا ، ولا موضوعا يستهان به ، إذ أنه إجراء استثنائي وغير مسبوق يقيد
الحريات الفردية ، وهذا الوضع يتسبب
بمشاكل نفسية للإنسان عبر أرجاء المعمورة .
رابعا - الوظائف السردية وعنف الزمن الكوروني في رواية " الجسد الجريح في زمن كورونا
تعد الأزمات التي تمر منها الإنسانية فرصة حقيقية قادرة
على تغيير كل المظاهر السلبية في مختلف المجالات وتحويلها إلى أفضل إيجابي ، ونقصد
أن الابتكار والإبداع متخفية وعلى شكل
أزمة ، وعادة تكون كلمة السر الوحيدة وقت
الأزمات هي الإبداع ، رغبة في التخلص من كل سلبي تقليدي أوجد وقاد البشرية نحو
الأزمة . إن الإبداع والتفكير الجماعي هما السبيل لتجاوز كل أزمة .
أن الانفتاح على المستقبل هو من بين مقومات شخصية القرن
الواحد والعشرين ، وفي ظل الأزمة التي يعيشها العالم خلال هذه الفترة بعد تفشي
جائحة كورونا ، تواصل كل الجهات البحثية عبر العالم ، ومعاملها المركزية الليل بالنهار ، للخروج بالحلول الإبداعية التي تُساعد في التخلص
والخروج من هذه الأزمة . والرواية واحدة
من مجلات الإبداع التي تمثل عنصر الحياة الراغب التجديد والتجدد .
1 - الفصل
الأول : تحولات اللعبة السردية / بين العلامات النصية والوحدات السردية :
تكشف مجموعة أحداث السرد في الرواية ( الفصل الأول من 1
إلى 7 ) ، عن مستوى حجم التغيير والاختلاف زمن الجائحة ( الجسد الجريح ) ، فتنفتح
الوحدات السردية على لحظات الأمل والحلم
والحكي ، تتصارع مع اختلاجات ذائقتها ، اقترابا باختلاف موضوعات الحكايا المنتقاة
، فالعلاقة بين أنا الشخصية وفضاء المكان والذاكرة في الرواية ، هي علاقة الكل
بالجزء ( عاد مباشرة بحماسة زائدة من المقهى معرجا على "المارشي "
متوجها إلى منزلهم القديم ... ) ، ذلك لأن الفضاء المكاني صار يتسع ويترابط سابقه
بلاحقه ( تسلسل الأحداث ) ( ... قبل أن أتزوج بفتاة صينية والدها صاحب وحدة
إنتاجية للسيارات في مدينة " ووهان " ...) ، أي أن القائم بالسرد يعرف
اعتقادات القارئ ، ويوجه السرد حسب متلطباته ، فتتوضح حدود هذه الذاكرة فتشكل
ابعادا جوهرية مؤلفة مزيدا من الإيحاءات والثغرات التبئيرية بكل وصلة ما من وصلات
الآصرة المكانية والذاتية لدى الشخصية البطل اسحاق ومساعده رشيد .
يقول عبدالفتاح كيليطو : "
...إذا سلمنا بأن السرد ، كالسياسة والصدفة ، لعبة ، وجب علينا أن نبحث عن القواعد
التي يخضع لها ، إن كانت هناك قواعد اللعب بصورة جلية وصريحة ، بينما يكاد القائم
بالسرد والقارئ يجهلان قواعد السرد أو لا يعرفانها إلا بصفة ضمنية غامضة لا تتعدى
مرحلة الإحساس المبهم ، وفرق أن تحس بوجود قاعدة وبين أن تعمل عنها بكيفية واضحة
..." ( 3 )
نقرأ في الفصل الأول من الرواية ، الصفحة 34 / : ( ... " وأخيرا رشيد أرسل لي عدة ملفات .. ، وضع الكتاب جانبا ، متشوقا ، بدأ في تصفح الإرساليات ، جمل الملف الأول ، فتحه قائلا في نفسه :
- هذا يتعلق بكتاب معنون هو الآخر بالفرنسية وكأن الغرب
وحده من بهتم بالبحث والتأليف في هذا المجال ، قرأ عنوانا مثيرا :
- تقرير
جديد لوكالة الاستخبارات الأمريكية كاتبه ، ألكسندر رايس : " le
nouveau rapport de la
CIA"
،
موصيا
بقراءة بعض الصفحات بعينها ...
فتح الملف
وسط دهشة لا نظير لها متسائلا ومتلهفا ذهب مباشرة إلى الصفحة : 203 قرأ باستغراب :
- حوالي 2020 ، بقدر ما يرتدي الأشخاص بكثرة الكمامات في
الشارع العام خوفا من الإصابة بمرض يصيب الرئة .. ، سيصبحون أكثر مقاومة لأي علاج
.. ومع أن هذا المرض يبدو أكثر إحباطا لما يزرع الرعب في النفوس في فصل الشتاء
سبزول ، لكن سيعود بعد عقد من الزمن ويرمي بالباحثين في دوامة المجهول حول أسبابه
وكيفية علاجه ... " ) .
تتدرج العلاقات السردية في العلامات النصية في الرواية
أفقيا وعموديا ، عبر عشرات التفاصيل والأحداث الرئيسية والوقائع الثانوية و
الجزئية ، المنفتحة والمنقادة استجابة لاشعورية متموقعة في مسرود ذات الشخوص في
رواية " الجسد الجريح في زمن كورونا " ، فيما يبقى الرصد التصويري
للروائي يتشكل بتلقائية في الرواية ، مقترنا بواقع الحجر الصحي ، الذي يظهر ويحضر البطل
اسحاق ومساعده رشيد " ، ويظهر كذلك المظاهر السرية ( تحقيقات وتقارير ) ( أهلا أخي إسحاق ، دائما نفس " المونتو
" الشبيه بالمحقق " كولومبو " ... ) الصفحة 5
أما " محمد الورداشي " فيقول في تعريفه لتداخل المظاهر السردية في
الرواية :" ...هو نقل مجموعة من الأحداث من صميم الواقع أو نسج الخيال أو منهما معا،
في إطار زماني ومكاني محدد بحبكة فنية متقنة، أي الأحداث لا بد أن تكون محددة في
الزمكان، وأن سرد هذه الأحداث لا يكون اعتباطيا أو عبثيا ، بل يستند إلى سلسلة من
القواعد الناظمة لسير الأحداث. وغياب هذه القواعد سيجعلنا أمام سلسلة أحداث تملأ
مساحة فضائية فقط، وغير قادرة على صنع نص سردي منسجم...." ( 4 ) .
أما علاقة السرد بعنف الزمن الكوروني / زمن الجائحة في
الرواية فهي متداخلة ومتشابكة ، وهي تتشابه بمظاهر السردية في الروايات التي كتبت
زمن الأوبئة ، مع الاختلاف في قوتها وشهرتها ، ونذكر من هؤلاء ما جسده الكاتب الإنجليزي دانييل ديفو ، مؤلف ( روبنسون
كروزو) ، من عنف لباء الطاعون في روايته
"صحيفة يوم الطاعون" ، فوصف فيها مشاهد الخوف والذعر التي انتاب الجميع
إثر تفشي الطاعون .
يمكننا القول أن المجال الثقافي والكتابة الأدبية في زمن
كورونا ، بحاجة لمزيد من الوقت والمراقبة عن كثب ، لكي يتمكن الكتاب من تقييم
الآثار التي ترتبت على إرغام الناس البقاء في بيوتهم ( الحجر الصحي - العزل
الإجباري ) خاصة أنها تجارب إنسانية صعبة ، ستترك آثارا كبيرة على الإنتاجات
الأدبية والفنية لهذه المرحلة البالغة الأهمية من التاريخ الحديث .
2 - الفصل
الثاني : المسرود العرضي والرؤية مع في رواية " الجسد الجريح زمن كورونا "
تتبنى أحداث السرد في الفصل الثاني في رواية " الجسد الجريح في زمن كورونا " مسرود عرضي نعاين من خلالها سرد الشخصية المشاركة لأحداث استباقية من زمن الحكي . كما تحتل الشخصية موقعا مهما داخل بنية النص السردي ، فهي من تقود الأحداث وتنظم الأفعال ، وقد تكون رئيسة أو ثانوية أو عابرة، ثم إنها، فضلا عن ذلك، تعتبر العنصر الوحيد الذي تتقاطع عنده كافة الإحداثيات الشكلية الأخرى بما فيها عنصرا الزمان والمكان، إذ يعدان ضروريين لنمو
الخطاب السردي.
وقد نالت الشخصية في الرواية نصيبها من الدراسة؛ إذ قدمت
حولها أبحاث كثيرة عكست تطور مفهوم الشخصية الذي رافق تطور نظرة النقاد إلى
الرواية، والجدير بالذكر أن الرواية قد أولت اهتماما كبيرا للشخصية لا سيما
لملامحها الخارجية وتصوير مظهرها بدقة
( ...سيكون هذا
الحدث ربما هو حدث السنة أو العقد الثاني من الألفية الثانية بامتياز ، وإذا ما
صحت التوقعات سيخلق ثورة عالمية متعدد الأبعاد : اقتصاديا اجتماعيا سياسيا
استراتجيا فكريا معلوماتيا ...لا غرو ستعصف بكل ما هو قديم وتشيد عالما جديدا
بمنظومات جديدة فكريا وسلوكيا وقيميا .. ، ستكرس زعامة من له قوة الذكاء بكل
أنواعه : الصناعي ، والاجتماعي ، والعلمي ، والمعرفي ، والذهني ..." الصفحة
81 و 82
تحكم فيه " المصطفى الزواوي " بمرويات الزمن
من خلال منح شخوص روايته ذلك المد التدريجي الخاص من زمن تفاصيل حكايات وروبوتجات وتحقيقات
، نستدرك ملامح هوية الزمن المضمر والمعلن من ظلال أحداث الرواية ( زمن كورونا ) ،
ومن هذا المنطلق بالذات يصير بمقدورنا أن نرى لوحات وأمكانيات التمثيل السردي على
أساس من حالة رؤية الواقع الروائي
يحتوي كل نص سردي على مسرح تقع فيه الأحداث وتتسارع في
ميدانه الواسع الأفكار والشخصيات. ويحتل المكان أهمية خاصة في تشكيل العالم
السردي، ورسم أبعاده، فهو يؤلف إطارا مكتوبا ومتفاعلا مع بقية العناصر البنائية
الأخرى. والمكان لا يقتصر على كونها أبعادا هندسية ولكنه، فضلا عن ذلك، نظام من
العلاقات المجردة، أي أنه يحول وسط حيويا تتجسد من خلاله حركات الشخصيات التي تجسد
في مسارها خطا مزدوجا متناقضا، إذ تبدو أحيانا متشابكة ومتداخلة، وفي أحيان أخرى،
تبدو متنافرة متباعدة وهذا ما يشير إلى البعد النفسي للمكان داخل النص، لذا أصبح
التركيز على المكان من الاستراتيجيات النصية المهمة التي تلجأ إليها الكتابات
الجديدة؛ إذ أن البعد النفسي هو أكثر الأبعاد المكانية حميمية وانتشارا . "
المكان الذي يثير نوعا ومقدارا من المشاعر تعاطفا أو تنافرا، قلما يستأثر باهتمام
الكاتب وإضفاء الصيغة الشعورية عليه تبدأ لحظة اختياره مسرحا للعمل الفني..."
11 / الدليمي، لطفيّة
– فيزياء
الرواية وموسيقى الفلسفة، دار المدى، بغداد، 2016
وحيثما يدور الحديث حول العوالم السردية، فمن المناسب
تأكيد القول، إننا بإزاء تمثيل بلاغي مضاعف، ليس من غاياته الوصف المباشر؛ إنما
الإيحاء، والتلميح، والترميز؛ لأن الأوصاف التي يقدمها الكتّاب عن العالم، والصور
التي يشكلونها عنه، لا تدلّ على أشياء حقيقية قابلة للتجسد المادي. ونتج عن هذا أن
تزحزحت الوظيفة التقليدية للرواية من كونها حكاية متخيّلة إلى خطاب رمزي باحث في
الشأن العام. أضحت الرواية سجلّا نتلمّس فيه ما يثير الهلع في النفوس عن البطانة
المركّبة للجماعات القبلية، والمذهبية، والعرقية، والمصائر الفردية القاتمة
للأشخاص، فهي “ديوان” كاشف للتوترات في مجتمعات تتوهّم بأنها طاهرة لا يأتيها
الإثم على الإطلاق.
3 - الفصل الثالث : الكفاءة السردية في واقع
الزمن المروي
أن مظاهر الكفاءة السردية تتجلى في الرواية، دون سواها
من الأنواع الأدبية ، لها الكفاءة في استيعاب التجارب الإنسانية المختلفة، وتمثيل
الهويات المتباينة، وعبور الحدود الثقافية ، وهي تتخطّى اللغات ، والثقافات ، أو
ترافق أحوال الإنسان حيثما وجد ، فمرونتها وفّر لها القدرة على ذلك ، فالرواية
تلبس لبوس مرجعياتها الثقافية ، ولا تنسخ بعضها، بل تتكيّف بالحوار مع أطياف النوع
نفسه في سائر الآداب . " ...أصبحت الرواية سجلا اجتماعيا، لأنها اقترحت بحثا
مجازيا في الصراعات السياسية، والمذهبية، والعرقية، بما في ذلك الهويات، والآمال،
والحريات، وانخرطت في معمعة التاريخ الاجتماعي، وفي كشف مصائر المنفيّين،
والمشرّدين، والمهجّرين، والنساء، وضحايا الحروب الأهلية، والاستبداد السياسي،
والاجتماعي، والديني. وأمسى من الضروري، تغيير موقع الرواية من كونها مدوّنة
نصّيّة إلى خطاب تعدّدي، منشبك بالخلفيّات الحاضنة له؛ فلا يسجّل السرد واقعا، أو
يعكس حقيقة قائمة بذاتها، بل يقوم بتركيب عوالم متخيّلة مناظرة للعوالم الواقعيّة.
وحيثما يدور الحديث حول العوالم السردية، فمن المناسب تأكيد القول، إننا بإزاء
تمثيل بلاغي مضاعف، ليس من غاياته الوصف المباشر؛ إنما الإيحاء، والتلميح،
والترميز؛ لأن الأوصاف التي يقدمها الكتّاب عن العالم، والصور التي يشكلونها عنه،
لا تدلّ على أشياء حقيقية قابلة للتجسد المادي ..." 12 / بريستلي،. ج. ب
الأدب والإنسان الغربي، ترجمة شكري محمد عياد، المجلس
الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000
ونقرأ في الصفحة 163 من الرواية ، ما يلي :
" ...انتهى
الحجر الصحي أم لا ينتهي ، قائلا في خاطره ، فماهية الإنسان هي - هي .. ، فلا حركة
للجسد بدون فكر وروح فالشيء وضده سرمديان وكل شيء في الطبيعة يحمل في طياته
ومكوناته جينات تتوالد وخلايا تحيا وتموت ، توقف ألقى بنظرة عميقة في الصابون صدر
منه زفيرا وسط صمت المنزل مازال كل أفراد عائلته يغطون في سبات عميق من كثرة السهر
في ليالي رمضان ..."
أما العوالم السردية فإنها تمثيل بلاغي مضاعف ، مبتعد عن
الوصف المباشر ؛ فنجد في هذا الفصل الإيحاء، والتلميح، والترميز؛ لأن الأوصاف التي
يقدمها المؤلف عن العالم ، والصور التي يشكلونها عنه، لا تدلّ على أشياء حقيقية
قابلة للتجسد المادي.
أضحت الرواية سجلّا نتلمّس فيه ما يثير الهلع في النفوس
زمن الجائحة ، وعنف الحجر الصحي ، واتشار الفيروس الخانق للأنفس .
وباء كورونا يحضر كحرب عالمية ثالثة، العالم كله على
جبهة محاربة عدو واحد، بعيدا عن الدين والقومية واللون والجغرافيا، الجميع مجند،
وهو تجند يذكرنا بما قرأناه وما شاهدناه من أفلام وما سمعناه من أجدادنا عن
الاستعدادات التي خاضتها البشرية ضد النازية في الحرب العالمية الثانية. لقد خلفت
الحرب العالمية الثانية حوالي أزيد من سبعين مليون ضحية، وها هي كورونا تهدد
الحياة من أصلها، أي محو الحياة من على وجه الحياة!”.
فالحرب ضد العدو كورونا لن تكون طويلة كما كانت الحرب ضد
النازية، ولكن آثار هذه الحرب لن تكون أقل فتكا ولا أقل ألما من مخلفات الحرب ضد
النازية.
ومسار المصدر التأريخاني في مشروع الموؤل للرواية، والذي
يعمل علة إيقاظ كوامن الشعور بفقدان الأصل المصدري، ولعل حالات بحث الشخصية حياة
البابلي عن عمها الشيخ قيدار أو ناجي، تشكل لحالة من محاولة استعادة أصول البلاد
أمتدادا إلى ما كانت عليه في سابق عهدها، ولقد حاولت الروائية الدليمي تحيين
مشروطية انتاج ذلك الزمن ووصفه ضمن مؤشرات إحالية من تحولات أفعال ذوات مغيبة
بالقوة التأشيرية للتأريخ، لذا غدا وصولها في المسرود المحكي، كواصلة مجردة في
أفتراضية اللازمن: (سقوطها لم يبدد ذلك الحلم بل جعله ممكن التحقق ودفع ناجي
للتشبث به فلم يتوقف عن بحوثه حول أشهر عشاقها في عصورها المختلفة الأخيرة
واحتلالها .. وقال أن العشاق الذين عاشوا في عصرها الذهبي وعصرها الفضي وعصرها
البرونزي والحديدي وعصر الرماد كانوا يسلمون جوهرتها من عاشق لآخر فلا ينال منها
الغزاة والمحاربون والقتلة الذين ينشغلون بالنهب وتدمير المباني والقلاع والحصون
ويردمون الأنهار ويدمرون الجسور ويحرقون بساتين النخيل .. ويلبث سرها محفوظا في
قلوب العشاق . / ص40 الرواية) أن جوانية شعور السرد بالمسرود، يشكلان ذلك الفعل
الذي يقوم به الوعي الروائي في أبعاد المشار إليه . فالشخصية المشاركة في مسار نمو
السرد، تحيلنا نحو نقطة للبداية أو اللحظة التي ندرك من خلالها أمكانية استعادة
ذكرى الأشياء عبر منظور (الأنا السارد) كفاعلية تجسد داخل المحكي منظورية التحيين
الزمنية التي من شأنها تقديم خلاصة متميزة ومرتكزة في وظيفة دال (الشاهد التدويني)
وصولا إلى استرسالية الحكي كمعادل بطريقة مرسل الحكي ذاته إلى جهات من الاشتغال
بوحدات المسرود إليه: (وعدته أن تكون الأخبار والقصص والأساطير التي جمعتها من
كراسات عمي قيدار وأخوتي وقصص البنات كتابا هو توأم كتابه عنها .. وما سأكشفه عن
بغداد في كراساتي وما تضمنته طوالعنا تحت نحس زحل وأفلاك الحروب وحظوظ الغرام
سيكون خاتم ارتباطنا وسفر مصيرنا وقد يكون الكتابان بيتنا أن استحال لقاؤنا على
أرض الأحياء . / ص40 ص41 الرواية) .
خامسا - خاتمة
:
وهناك روايات استندت إلى التخييل بشكل كبير، وكانت ذات
بعد استشرافي غرائبي، جعلها تتوقّع حدوث أوبئة استثنائية، وتصف بدقة مختلف ما يمكن
أن يصيب العقول البشرية والإرادات، وكانت في مجملها عبارة عن محاكمات أخلاقية
قاسية للتوجهات الحضارية الجارية، وأشهرها رواية “الطاعون” التي كتبها ألبير كامو
سنة 1947، أي مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ورواية “العمى” التي
ألفها البرتغالي جوزيه ساراماغو سنة 1995، والتي تنتهي بقولة عميقة لزوجة الطبيب
بطل الرواية، وكانت الوحيدة التي نجت من وباء العمى: “لا أعتقد أننا عمينا، بل
أعتقد أننا عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا لكنهم لا يرون”.
وقد استمرت عناية الأدب بالأوبئة والأمراض المعدية حتى
صار بإمكاننا أن نضيف إلى الجنس الروائي نوعا روائيا سمّي أدب الأوبئة، فإلى حدود
الألفية الثالثة صدرت العديد من الأعمال الروائية التي تعالج موضوعة الأوبئة وتبدع
في تخيّل إمكانيات العدوى وما يتبعها من فقدان للتحكم وانهيار للقيم والبُنى،
كرواية “عام الطوفان” التي صدرت عام 2009، للكاتبة الكندية مارغريت آتوود، ورواية
“المحطّة الحادية عشرة” للكندية كذلك، إيميلي سانت جون مانديل التي نشرتها سنة
2014،وهي روايات أفادت كثيرا من قراءة السيناريوهات السابقة التي ظهرت مع بعض
الأوبئة المحدودة الانتشار، لكنّها أعطتها أبعادا عالمية . ولذلك أعتقد أن الأدب سيظل رفيقا للبشرية كما أسلفت، بل
وستزداد أهميته
كثيرا، بحكم طغيان الجوانب المادية على الحضارة ، وحاجة
الإنسان الملحّة إلى الأبعاد الوجدانية والروحية ، وهي المجال الحيوي للأدب ،
ولذلك ينبغي أن يكون الرهان كبيرا على الأدب والثقافة والفن بشكل عام، لمن أراد أن
يبني نموذجا حضاريا إنسانيا متوازنا ليخلّص هذا المجال من جنوحه وزيغه وإفساده
للفطرة الخلاّقة التي تميل إلى التعايش والسلام والخير والمحبة ، وتكره الظلم
والفساد.
بالفعل شكّلت فترة الحجر الصحي فرصة استثنائية لمحبي القراءة بشكل عام ، والأدب بشكل خاص ، وتداعى العديد منهم إلى إشهار ما يقرأ، وتبادل الانطباعات والملاحظات حول الكتب، كما ظهرت مجموعة من المبادرات التي تهدف إلى تشجيع القراءة ، وفعلا بات من الجميل حقا أن تصادف العديد من المنشورات الشبابية في المنتديات الاجتماعية تتحدث عن الكتب وتتبادل الآراء والنصائح بخصوصها ، وهي خطوة من الخطوات العديدة اللازمة لتثبيت سلوك القراءة في حياتنا اليومية ، وهو شأن التربية الأسرية بقدر ما هو شأن المدرسة والإعلام وباقي المؤسسات المختلفة ، سواء عن طريق التوعية أو الدعم والاحتضان أو الشراكة أو الجوائز، على أن يتم ترشيد مجمل هذه الخطوات والمبادرات وفق رؤية استراتيجية خاصة .
المصادر والمراجع:
1 – رواية " الجسد الجريح في زمن كورونا " /
المصطفى الزواوي .
2 – المرجع ( 1) نفسه / الصفحة 7 و 8 .
3 - مجلة الآداب / 1980 / السنة الثامنة والعشرون / عدد
خاص ( 2 و3 ) الصفحة 83
4 – محمد الورداشي / موقع الحوار المتمدن
- المنير في اللغة العربية (الجذع المشترك، والتعليم الأصيل)
- اللغة
والحجاج: أبو بكر العزاوي
- المعجم
الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والانجليزية واللاتينية: جميل صليبا
- الأساسي
في اللغة العربية
- Roland Barthes : introduction à l’analyse Structural
des recit, « collectif » édition du Seuil, Paris , 1977, P 32.
- Voir : R. Barthes : introduction à l’analyse
structural des récit, P P 14. 15.
تعليقات
إرسال تعليق