الملوحي.. والخولي .. وجهًا لوجه
الملوحي .. والخولي . . وجهًا لوجه
نقلًا عن قريبه الأستاذ سامر الملوحي
- كتب الأديب العربي السوري "عبد المعين
الملوحي" في مذكراته "شظايا من عمري" الجزء ١ في الصفحات ( ٧٨ - ٧٩
- ٨٠ - ٨١ - ٨٢ - ٨٣ ) ما يلي:
الشيخ أمين الخولي يهددني بالطرد ..
كان أستاذنا المرحوم الشيخ أمين الخولي نموذجًا
فريدًا في التدريس وفي معاملة الطلاب وخاصة طلاب سورية . كان يمثل الفرعونية بأجلی
مظاهرها. وكان يمثل الاحتقار الكامل لكل من لا يتبنى أفكاره فهو نازي عريق. وكان
يمثل السخرية بكل إنسان، فكأنما هو وحده كل شيء، والناس ليسوا بشيء وكان يمثل
النزعة السفسطائية بأغرب أنواعها ، كان "مغالطا " " ديماغوجيًّا"
في شكل لا مثيل له . أعطانا كتابه " في الأدب المصري " وطلب منا دراسته.
من الدفة إلى الدفة دراسة دقيقة وخرجت بنتيجة واحدة لا ثاني لها :
الكتاب دعوة شعوبية ظاهرة إلى فصل مصر عن الأمة
العربية، إنه مثل الدعوة الفينيقية في سورية، والدعوة الآشورية في العراق، والدعوة
البربرية في المغرب .
وكتبت بحثًا طويلًا هاجمت فيه أفكار الكتاب هجومًا
قاسيًا، وهاجمت صاحب الكتاب أحيانًا .
لا يمكن تلخيص كتاب الخولي، ولا تلخيص بحثي عنه
في هذه المذكرات ولكني ألححت في ردّي على ما يلي :
- مصر جزء
من الأمة العربية .
- الأدب
العربي أدب أمة كاملة لا أدب قطر .
- لا مانع
من دراسة ما كتب من أدب وشعر في كل قطر عربي، ومصر من هذه الأقطار ضمن إطار الأدب
العربي والشعر العربي .
- إن فصل
مصر عن الأمة العربية سياسيًّا وثقافيًّا سوف يلحق بها الضرر، كما يضر الأمة
العربية، لقد حاولت النازية فصل ألمانيا عن العالم فأوقعت نفسها في كارثة, وهي
الآن تبدأ في لفظ أنفاسها الأخيرة كان ذلك عام ١٩٤٤.
- وأعطيت
البحث للأستاذ الخولي.
- كنت أعرف
أني سأصطدم بالأستاذ صداما عنيفا و سأعرض بقائي في الجامعة إلى الخطر وقمت بمغامرة
... وقلت في نفسي " ليكن ما يكون.. وكان ما كان " ...
- جاء الأستاذ بعد أسبوع أو أسبوعين يقول سائلًا
في شيء من الحيطة والتجهم والتهكم :
- من عبد المعين الملوحي ؟
- أنا يا أستاذ .
- اخرج إلى المنبر وحدّثنا عن موضوعك .
- أخرج ولكن لي شرطًا.
- وما شرطك ؟
- أن تتركني أتحدّث نصف ساعة، ثم تتكلّم كما تريد .
كنت أعرف طريقة الأستاذ في المناقشة، يخرج الطالب
إلى المنبر ويهم أن يتحدث، فإذا قال مثلًا: بسم الله الرحمن الرحيم ، قال له : هذا
نفاق . قل ذلك في قلبك. وإذا لم يقل : بسم الله الرحمن الرحيم ، قال له : هذا نقص
، كل شيء لم يبدأ باسم الله فهو أبتر .
- ولا يكاد الطالب المسكين يتكلم كلمتين حتى يقبض
عليه الأستاذ بكلتا يديه ويتحدث هو عنه ويهاجمه ويسخر منه ويجعله أضحوكة الطلاب .
والطلاب يضحكون وهم خائفون، لأنهم يعرفون انهم
سيقعون يومًا في براثن الأستاذ ولكنهم لا يستطيعون إلا أن يضحكوا رغم أنوفهم ...
وما أشدّ لؤم الطالب الذي يضحك من الطالب .
وقال الأستاذ :
- حسنًا. أخرج وتكلّم.
صعدت المنبر، وبدأت أتحدّث عن موضوعي.
لم تمض دقيقتان حتى قاطعني الأستاذ الخولي وأخذ
يتكلّم، لملمت أوراقي وعدت إلى مقعدي .
قال : ولماذا عدت ؟
قلت : كان الشرط أن أتكلّم نصف ساعة فلم تتركني
أتكلّم أكثر من دقيقة .
واضطر الأستاذ إلى السكوت وقال :
- عد وتكلّم.
لخّصت آراء الأستاذ، ثم بدأت مناقشتها .
كنت هادئًا هدوءًا عجيبًا .
إنني أعرف في نفسي خصلة غريبة جدًا : أنا في
الوضع الطبيعي كثير الحركة، كثير العصبية، ولكن حين أقع في أزمة أو ضيق أو مشكلة
أصبح موزونًا ثقيلًا، تدخل أعصابي في براد، في ثلاجة ... لا شيء يهزّني أو يستفّزني ..
كذلك كان موقفي وأنا أجابه الأستاذ الخولي،
وأعرف مدى عناده وقسوته .
وما كدت أنتهي من موضوعي في تركيز شديد حتى صاح
بأعلى صوته يستفز إخواننا المصريين في الصف .
- ولماذا جئت مصر يا شامي ؟
- جئت آخذ الشهادة .
- أولا تريد أن نعلمك ؟
- جئت آخذ الشهادة .
وصاح الأستاذ في غضب، بل زعق :
أرأيتم يريد أن يهیننا في بلدنا، ما رأيكم يا
طلاب مصر...؟
وانبرى طالب أعمى كان في صفنا يريد أن يدعم أستاذه
نفاقًا.
وقلت له في هدوء :
- يا أخانا لا تضف إلى نفسك عمى البصيرة فوق عمى
البصر , وسكت المسكين .
وقامت زوجة الأستاذ عائشة عبد الرحمن لتهاجم .
وقلت لها في هدوء :
-إننا نحترمك كزوجة ثانية لأستاذنا، ولكننا لا
نحترمك كطالبة على الإطلاق .
وسكتت المرأة .
وزاد هياج الأستاذ :
- هذا الملوحي جاء يهيننا في عقر دارنا .
سنرى إن كنت ستبقى في الجامعة .
موعدنا في مجلس التأديب .
وقلت في هدوء : قلت لك يا أستاذ جئت لأخذ شهادة
لا لأتعلّم، وأنا أعرف طريقي إلى الشام فافعل ما تشاء .
وخرجنا من الصف :
توقعت في كل لحظة، وخلال أسبوع كامل، أن أدعى
إلى مجلس التأديب, وجمعت ثيابي للعودة إلى الشام، ولكني لم أدع إلى مجلس التأديب .
وجاء درس الأستاذ في الأسبوع الثاني ...
وقال لي في غضب :
- تعال إلى المنبر .
وجئت فلم يكد يسمح لي بالكلام .
كان إذا تكلم وأطال أفق كلامه بملاحظة صغيرة
واحدة . وهاج الأستاذ وماج، وحاول مرة ثانية إثارة الطلاب، فلم يثر منهم أحد،
وكذلك سكت السوريون فلم يتكلّموا .
كانت قاعة الدرس ساحة معركة .
وانفجر الشيخ انفجارًا مدويًّا وزعق :
- لو كان
الله عربيا لكفرت به .. ولو كان محمد عربيًّا لكفرت به .
وقلت، وأنا أقف، وأجبت في هدوء عجيب :
- أمّا الله فليس بعربي ولا بأعجمي، وما يضر الله
أن تكفر به أو أن تؤمن. وأما محمد فهو
عربي وسيان آمنت أم كفرت، ولكني أسف على هذه العمامة التي تمتطي رأسك وهي شعار
العروبة والإسلام .
وانتهت المعركة وقرع الجرس وخرجنا .
وانتظرت أسبوعًا آخر ، ولم أدع إلى مجلس التأديب ....
وسكت الأستاذ، وكان - يشهد الله - نبيلًا شريفًا.
((وسمعت من أحد الأساتذة قوله : لم أحترم طوال سنوات تدريسي غير
طالب واحد هو الملوحي .
عندما توفي الأستاذ "محمد ضياء الملوحي
" الوزير السابق
كنت في حمص أعزي .. وكان موجودًا المرحوم
الدكتور ..
" شاكر الفحام " تحدّث قائلًا : عندما ذهبت
إلى القاهرة للحصول على شهادة الدكتوراة ..كان أستاذي في الجامعة الشيخ "
أمين الخولي " ..وسألني : من أين أنت ..؟ قلت :
من سوريا .. من أي مدينة ؟؟ من حمص ..!!
ردّ الخولي .. قائلًا : إذًا أنت من مدينة عبد
المعين الملوحي..
وتابع .. قل له : لم أحترم طالبا طوال حياتي في
التدريس الجامعي كما احترمتك يا " عبد المعين الملوحي " ..وانقل له
تحياتي واعتزازي به ((
معركة لم تتم :
وبعد عدة شهور طلب منّا الأستاذ الخولي موضوعًا
آخر في مادته الثانية، مادة القرآن الكريم، والسجع فيه .
وقبعت في مكتبة الجامعة :أدرس كتب الموسيقى،
التراتيل، وكتب الأديان وكتب الأساليب، وما كتب العرب والأجانب عن هذا الموضوع، ثم
كتبت الموضوع .
كان الأستاذ -رحمه الله - في غرفة الأساتذة حين
دخلت عليه وقدمت له الموضوع الكبير الذي كلفني كثيرًا من الجهد والدراسة والبحث،
وقلت له في هدوء :
- خذ يا أستاذ، هذا الموضوع الثاني، بعد موضوع
"في الأدب المصري" واقض ما أنت قاض، إنما تقضي في هذه الحياة الدنيا،
هذا الامتحان الأدنى .
وأخذ الأستاذ الموضوع، وكانت علامتي بعد ذلك في
مادة القرآن الكريم " ممتازة
" .
أما موضوع " في الأدب المصري " فقد ردّه
الأستاذ . "رحمه الله " إلي، وما يزال عندي. وأما موضوع
" السجع في القرآن الكريم " فلم يردّه، وما أزال أتحسّر على فقدانه .
رحم الله الخولي : لقد كان عنيفًا ولكنه كان
شريفًا، كانت له آراؤه ولكنه لم يعاقب الطلاب على آرائهم، وإن كانت تخالف آراءه,
ما دامت ذات منطق صائب وحجة دامغة .
لا أدري لعل الأستاذ الخولي بعد تلك المناقشة
الصاخبة عدل رأيه " في الأدب المصري " ورأيه في عروبة مصر.
تعليقات
إرسال تعليق