الحقيقة

 

 قصة الكاتب السوري حمدي البصيري

 

بيده كان يشير إليّ. اتجهت العيون نحوي. حاصرتني الديكة، يا إلهي، لم يكن هذا في النص! فرصتي تتلاشى، لا، قررت ألاّ أسكت, نهضت, هممت بفتح منقاري، لكن صوتي لم يخرج، مسدسه فقط تكلّم...
عندما أطلعني الزعيم على نصّه المسرحي، الذي سيقدمه بنفسه على الخشبة، أدركت بأنها فرصتّي الثمينة, قررت ألاّ أسكت؛ الزعيم خصّني بسّره الكبير … ألبسني قميصه، لأنّه يرى فيّ شبابه, زعامة المنتدى من حقي! ولن تفلت منّي. سأكتب تقريرًا يقلب الدنيا على رأسه.. صحيح أننّي لم أزل غرًّا في المنتدى، ولا يحقُّ ليّ أن أمدّ منقاري إلاّ بالمقدار الذي تسمح به جوقة الديكة المدينّية الناعمة، لكننّي ديك بلدي جائع ولن أسكت.
بالأمس حين تجادلنا في المقهى حول الحداثة والعولمة وصراع الحضارات، استأثرت بإعجاب الفرنسية التي جاءت من بلد الديوك، لتعدّ أطروحة عن أدبنا العربي المعاصر.. كان الزعيم عادةً يستأثر بها. لم يجرؤ أحد سواي على ذلك الأمر. كنت أعرف بأن الزعيم مشغول عنّا بعرضه المسرحي، انتهزت الفرصة، وغنمت الدجاجة الفرنسية.
منذ جئت المدينة، وأنا أسعى إليه . كان مثلي الأعلى مع أنّه أقلّ الأدباء جدارةً، وأكثرهم جهلًا، إلاّ أنّه عرف كيف يستقطب الأنظار، ويغدو ملتقى الأنصار والمريدين.
وها أنذا بعد أشهر عدّة من التزلف والتملق والنفاق، أصبح خاصته المفضل، يطلعني على أسراره؛ اليوم، حين زرته في مكتبه ، قال لي :
-  سأقدّم عرضًا رائعًا.
 - رائع بلا أدنى شكّ يا زعيم .
 - سيكون عرضًا حقيقيًّا لأول مرة!
 - بلا شك، بلا شك .
على مسرح الحمراء، انتظرنا الحدث الكبير... مونودراما الحقيقية، تأليف وتمثيل وإخراج زعيم الديكة المحلية .
جمعنا الأنصار والمريدين، وحشدنا أبواق الاعلام الممالىء لنا. أطلّ زعيمنا على الخشبة، فصفقنا طويلًا، وتلامعت أضواء الكاميرات على جبهته العريضة.
لم يكن الزعيم مزهوًّا كعادته .. كان حزينًا.. عرفه الأحمر منكّس وجناحه مكسور.. الوحيد الذي يعرف سرّه أنا. رفعت عرفي وصَفقت جناحيّ بحرارة، وأنا أقو قو:
-  إنّها فرصتي، إنّها فرصتي .
انحنى الزعيم أمامنا وسط الخشبة المنارة بأضواء حمراء وزرقاء، ثم رفع رأسه قائلًا:
-  سأقدّم عرضي الأول والأخير.
بقبقتُ فرحًا، وصفقت جناحيّ بحرارة أكبر، وأضاف الزعيم:
سأقول الحقيقة، صدقوني، أنا رجل بلا ماض، ولا أملك أيّ تصورٍ عن المستقبل.. تروني قاصًّا، روائيًّا، مسرحيًّا، ناقدًا، مع أننّي أقلّكم موهبة وإبداعًا.
أنا، إنسان بلا رأي، أجل، لا تفزعوا، أنتم أيضًا بلا رأي، مُغيّبون منذ مئات السنين، أنا، أسير مع التيار، وحين أكون أكثر لؤمًا، أستبق التيار، وأصطاد في المياه الآسنة. لا أعارض أحدًا جهارًا؛ أتسلل بهدوء عبر حلقات السلطة والنفوذ، حتى أصل إلى ما أريد، وحين تسوء الأمور، أطلب إعفائي هربًا من المواجهة والمسؤولية.
حين تسقط جوقتي المباشرة، أستبدلها بجوقة أخرى. وإذا فاتتني فرصة هنا، ألتقطها هناك. أبقى أنا، كما أنا، رغم تبدّل الجماعات والأفراد من حولي.
نعم أيها السادة إنها الحقيقة التي غيّبتها طويلًا.. أنا عجوز مخادع، مغرور، حاسد، خائن، أعرف كيف أطعن في الظهر، وأعرف عند أيّ ّالأولياء أقدّم نذوري الكاذبة، وعند أيّ القديسين أعترف، وعند أيّ الآلهة أسجد.
بإمكانكم أن تقولوا إننّي كليُّ الحضور، ترونني في المسجد والكنيسة والمعبد، في المرقص ودار البغاء، في المسرح ودار السينما، في المقهى والمنتديات...
في كل مكان أنا، نجم اللقاءات والاحتفالات والمهرجانات بلا منازع . حين أطرد من مكان لا أبالي، ولا يهمني رأي و لا شماتة حاسد. لا إيمان عندي، ولا التزام بمبدأ أو قانون . لا أؤمن بالإله و لا بالوطن ولا بأيّ بقعة في الكون.
أنا أيضًا لست ملحدًا، لأن الإلحاد يتطلب الالتزام بفكرة ما؛ أنا، أذهب إلى المسجد كمن يذهب إلى حفلة تنكرية، أو ليمثل دورًا معينًا أو ليجسد شخصية محددة لوقت محدد.
أنا، خارج حدود الزمان والمكان، كما لو كنت مشاهدًا حياديًّا لمباراة بين فريقين لا يعنيني من يخسر أو يربح. لا أذرف الدمع على صديق مفقود، ولا على طفل يتألم جوعًا، ولا على مجزرة يقوم بها قتلة متوحشون، ولا ذرة اهتمام بمكان مقدس، أو لحظة تأمل في أحداث مأساوية مفجعة، تحدث هنا أو هناك.
إنني في كل مكان، ولست في أي مكان.. غائبٌ، حاضرٌ، شاهدٌ، أعمى، لا أغضب، ولا أتمرد على أحد، أتحاشى تبنّي أي موقف أو فلسفة .. أنا أممي و عولمي، قومي ووطني، طائفي ومذهبي !!
ليس لديّ أيّة خصوصية؛ أصلح لأيّ عمل، ولا أصلح لأيّ شيء، بيد أننّي أتمتع بثقافة التهريج، وثقافة الجنس، واستعراض القدرات والمواهب المكرّسة لإدهاش الحضور، والسيطرة على الجو، والإيحاء بالمعرفة الشاملة، لقطيع المريدين والأنصار، تمامًا، مثلّما أفعل الآن بكم..
إننّي ، رجل اللا مكان و اللا موقف و اللا خصوصية؛ خصوصيتي الوحيدة التي تخلّصت منها الآن هي الخوف من الغد، من فقدان الحظوة والموقع والامتياز؛ الخوف من الانكشاف، ومن الفشل في تمثيل دور القاص والروائي والناقد المسرحي والفيلسوف العبقري؛ إننّي الخائف أبدًا.
هذه هي الحقيقة، وهذا هو الدور الوحيد الذي أديته بصدق، بروعة، بإبداع، ولن تستطيعوا أداءه مثلي قبل سنين عديدة.
أتسمع أيها العضو الجديد، لن تستطيع الصعود على ظهري، أيها الديك البلدي الجائع، لن أمنحك هذا الشرف الرفيع.
بيده كان يشير إليّ، اتجهت العيون نحوي، حاصرتني الديكة بفضولها، يا إلهي، لم يكن هذا في النص..! فرصتي تتلاشى، لا، قررت ألاّ أسكت. نهضت . هممت بفتح منقاري، لكن صوتي لم يخرج، مسدسه فقط تكلّم. ارتميت أرضًا، ولم أنهض إلاّ عندما تعالى صراخ الجماعة والأنصار:
- الزعيم انتحر، الزعيم انتحر
تنفست بعمق. نظرت للأعلى شاكرًا ربي. رفعت يديّ متمسكًا بأذيال فرصتي، لن تفلت منيّ، وأطلقت صوتي البلدي، قويًّا بين أصوات الديكة المدينّية الناعمة، مؤكدًا جدارة الديك البلدي في الزعامة.

 

تعليقات


  1. لستُ بناقد لكن اقول هذه الشخصية من البشر هي ركيزة اساسية للمستبدين و الدكتاتورية في العالم.

    ردحذف

إرسال تعليق

مشاركات شائعة

جماليات الجرح وتحولات الذات: دراسة ذرائعية في أعمال د. صباح عنوز الشعرية الكاملة بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي

بين البنية السردية والتشكّل القِيَمي: قراءة ذرائعية في رواية "مشاهد" للكاتب المصري شريف التلاوي بقلم الناقدة الدكتورة عبير خالد يحيي

الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية لديوان «رقصات الصمت تحت جنح الظلام» لـلشاعر المغربي سعيد محتال بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

تجليات أدب الخيال العلمي في المجموعة القصصية / تشابك سرّي/ للقاصّة المصرية غادة سيد دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم د. عبير خالد يحيي

المشاركات النقدية الذرائعية

كبوة الريح/دراسة نقدية ذرائعية

مؤلف عبد الرحمن الصوفي

الشعر الحر وتمثّلات الدعوة لأغراض شعرية جديدة - دراسة ذرائعية مستقطعة في قصائد للشاعر العراقي وليد جاسم الزبيدي من ديوان ( مرايا الورد) بقلم الناقدة الذرائعية السورية د. عبيرخالد يحيي

جرأة التجريب ولعبة الميتاسرد في رواية ( لو لم أعشقها) للأديب المسرجي والروائي المصري الكبير السيد حافظ - دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة السورية الدكتورة عبير خالد يحيي

قداسة المكان و تحليق الذّات الملتهبة

التوازي في الدلالات السردية - دراسة ذرائعية باستراتيجية الاسترجاع في رواية ( بغداد .. وقد انتصف الليل فيها) للأديبة التونسية حياة الرايس - بقلم الناقدة الذرائعية السورية د. عبير خالد يحيي

قصيدة ترميم الروح

قصيدة النثر العربية المعاصرة

أدب الغزو من منظور ذرائعي

تعبير رؤية