قراءة نقدية للكاتبة الليبية سعاد الورفلي في قصة ( صحوة ) للدكتورة عبير يحيي
قراءة نقدية للكاتبة الليبية سعاد الورفلي في قصة (صحوة) للدكتورة
عبير يحيي
القصة صحوة
لم
يصدّقوا أنني سأهبط من عليائي يومًا ما..
صمتي الذي أشعلَ أوارَ ألسنتهم بالرجاء والاستجداء
قبل عشرين سنة, أخمدَها اليوم صوتي الذي انطلق ضعيفًا, ممتطيًا لسانًا ملجومًا,
متكسرًا عند الفواصل, كسيحًا عند النقط
: -" أريد بدلة كحلية, وقميصًا أبيض, وربطة عنق وردية. أريد
عطرًا فاخرًا. أريد
أن أحلق ذقني وشعري. وسأنزل ...." لم
أكمل كلامي, قوطعتُ باندهاش الوجوه التي تكرمشتْ وتغيّرتْ سحناتُها, وهربتْ منها
الحياةُ هنيهة, كأنها رأتْ شبحًا, وجوهٌ طيبة تأسّفتُ بيني وبين نفسي أنّني عكّرتُ
سماحتَها وصفاءها, زعزعتُ أمنَها, وتمنيتُ لو أنّني لم أُخرِجْ صوتي من قمقمه. كانت
أمي أول من أخرجتْها (زغرودةُ) أختي من الذهول! وأعادتها إلى أرض المحسوس, فانطلق
لسانُها بعبارات الحمد والشكر لله...
لم أغادرْهم إلّا مُرغمًا, أمي وأخوتي وأصدقائي,
كنتُ على موعدٍ قَدَريٍّ مع صمتٍ كئيب أطبق بنواجذه وأنيابه على حياتي, يوم فاجأني
الموتُ بابتلاعه نصفيَ السفلي وكأنه لم يكن جائعًا بما يكفي لابتلاعي كاملًا,
أدركتُ لاحقًا أنه كان متخمًا بعد أن ابتلع المئات من الأشخاص كاملين في انفجار
إرهابي, وكان حرمُ الجامعة مائدةَ وليمتِه!
انتهيت مشلولًا بفعل شظية هشّمتْ فقراتي القطنية,
على سريرٍ لم أشأ أن أغادرَه!
لم يُغرِني الكرسيُّ المتحرك بركوبه, وسرقَ الرعبُ
صوتي.. إرادتي, وبعضًا من ذاكرتي
!. وبقيتْ هي.. حوّائي.. تراودني
عن نفسي, تريدني أن أمتطي صهوةَ الحياة من جديد! كيف أفعل ذلك؟ وهل تقبل الحياة
بأنصاف بشر؟ كيف يكون ذلك وقانون الاصطفاء الطبيعي الذي يحكمها هو البقاء للأقوى؟!
وأنا لستُ قويًّا أصلًا لأدخل في تصنيف القوة! أم أنها احتفظتْ بنصفيَ العلوي
لتضعني في قوائم قوانين المعاوضة؟! أو لعلّي حصّتها من اتفاقية تقسيم بينها وبين
الموت؟! وكلٌّ أخذَ حصّته مني ومضى!.
عشرون سنة وهي مسجونة معي, نأكل ذات الطعام, في ذات
الصحن, ونشرب ذات الشراب, من ذات اليد المغضّنة الحنونة, ننامُ معًا, نتناصفُ ذاتَ
السرير, تدلّكُ نصفيَ الميّت, وكلُّها أملٌ بحدوث المستحيل, أضحكُ من أوهامها,
تغضبُ مني, ترفعُ في وجهي تفاحةً حمراء شهية, قطفتْها ذاتَ غفلةٍ من شجرة كنتُ
حدّثتُها عنها في إحدى حكاياتي, تهدّدُني بأنّها لن تشاركني بها, وأنها ستأكلها
بمفردها, لتهبطَ إلى عالم الضجيج!.
عشرون سنة مضتْ بنا وهي تهدّد, بالأمس نفّذت
تهديدها.. غادرتْني.. تركتْ
على جدران ذاكرتي المغتصبة رسالةً, فحواها أنها تريد أن تنجبَ ولدًا من طين وماء!
وعلينا أن نهبط إلى أرض الطين والماء معًا ! سبقتْني لتستنهض عجزي, تاركةً ثوبها
الوحيد على نصفي الميت, لأدركَ أنها هبطتْ عارية! وعليَّ أن ألحقَ بها لأسترَ
سوءتها!. على
كرسيّ مدولب, وأمام باب العمارة استويتُ بكامل أناقتي, ببدلة كحلية وقميص أبيض
وربطة عنق وردية, أربعيني أودّع شبابي, وأخطو أولى خطواتي باتجاه الكهولة, تاجٌ
فضيٌّ يزيّن رأسي, لا أدري متى ولا من أين اقتنيتُه, أدركت لاحقًا أنه هديّة
الأيام والشهور والسنوات بالتقسيط..شعرة شعرة...
بقيتُ في مكاني, أرتّبُ مراسمَ احتفالية للقادم من
حياتي, وأوزّعُ المهامَ على المحيطين, كلُّهم كبروا, على غفلة من زماني, لا أدري
كيف تمكّنوا من تجاوزي ونسياني على حدود سباتي؟! أم أنّي أنا من تجاوزتهم؟! لا
أدري...! حالما
حسِبتُها قادمة بسرعة البرق في سيارة فارهة, أمرتُهم بإخلاء المكان إلّا منّي على
كرسيّيَ المدولب, ستخطفني حتمًا, لكن بمفردي, وليس بوجود تلك الحشود, لأنها عارية,
خجولة إلّا مني, وثوبُها الوحيد معي, أبيضَ لم تمسسه أدرانُ الزمن, سألقيه عليها
ليرتدَّ إليها العنفوان, سنتزوّج, ويتكوّر بطنها, وستنجبُ ابن الطين والماء, يرثُ
منها عزيمةً يرمّم بها فجواتِ عجزي وقلّةَ حيلتي, ويرثُ مني أنَفَةً وقوّةً تحميه
من ذلّ الاحتياج, وسيرثُ من كلَينا الخوفَ, نعم.. الخوفُ الذي تسلّل إلى كلِّ
خليّة في أعضائنا النبيلة وغير النبيلة, عند أول خطيئة ارتكبناها, وعُوقبْنا عليها
بالطّرد... إنها
تقتربُ بسرعة كبيرة, سأتهيّأ لعناقها لأسترَ بدنَها بحركة تمثيلية, يااااا قسمتي
العادلة, هيا حوااااائيييي... أنا
الآن مسجّى على سريرٍ مدَولبٍ أمام عربة الإسعاف, وقد استوى الموتُ في كِلا
نصفَيَّ, متدثّرًا ببدلتي الكحلية وقميصيَ الأبيض وربطة عنقي الوردية, وأصواتٌ
كثيرة تأتيني من عالم الضجيج, وعويلُ امرأة أزاحتِ الناسَ من حولي, ووقفتْ تحملقُ
بي, غريبةُ الملامح, لم أعرفْها, غطّتْ خطوطٌ حمراء ودوائر زرقاء مساحاتٍ كبيرة في
وجهها, هل كل هذه الألوان أصباغ زينة؟ مهلًا, سأدقق أكثر, لا لا, سحجاتٌ نازفة
وكدمات...! سمحت لبصري أن يبحث عن حوائي في باقي أنحائها, قبلَ عبوريَ الأخير,
فنقل إلى دماغي المحتضِر صورةً لامرأةٍ تمزّق ثوبُها, وتعرّى الكثيرُ من جسدِها,
تصرخُ بهلعٍ: -" سامحوني,
اغفروا لي أرجوكم, كنتُ في عجلة من أمري, فررتُ من مكان سُجِنتُ فيه عقدين من
الزمن, هربتُ من زوجي, بعد أن أمعن كثيييييرًا هذه المرة بإيذائي, تملّصتُ من بين
يديه, ضربتُه بتمثال أفروديت الذي كان يضربني به كلما لعبَ الجنونُ والسكرُ بعقله". لم
يكنِ الصوتُ صوتَ حوّائي! بل صوتُ امرأة بدأتْ تلسعُني بسِحاحِ دموعِها, تنشجُ مع
كلماتٍ تفرّ منها مع تلاحقِ أنفاسِها الخائفة:
-"لا أدري كيف فرّ الدمُ من رأسه, ولطالما فرّ من
رأسي أنا, هل ارتكبتُ جريمة؟! أخشى أنني قد فعلت! يا ويلي..... ياااااا ويليييي..
وجدت مفاتيح سيارته أمامي, أخذتُها وغادرتُ البيت, قدتُ السيارة بسرعة جنونية, نعم
أعترفُ بذلك, ولم أرَ شيئًا أمامي, لم أرَ الرجل, ولم أرَ كرسيه.. لم أرَه...
صدّقوني!". #دعبيرخالديحيي
من مجموعتي القصصية الجديدة تحت الطبع
القراءة
عرض استهلالي
صحوة متأخرة بعد تفكير عتيق يؤنب النفس بالخطايا ويمنيها بعهد جديد
طالع القصة
صحوة___ النفس
صحوة___ الروح
صحوة___ الزمن
صحوة___ الذكريات
صحوة___ الحياة بعد الموت
صحوة___ الحرية بعد السجن
صحوة/ انتعاش/ حرية/ نهوض/ تجديد
صحوة ____ الموت بعد الحياة
صحوة___الجسد / مناورة الجسد للعقل
مقدمة
إن فن القصة القصيرة من أكثر الفنون الأدبية المشبعة بالخيال؛
وتعدديته أضف إلى ذلك تحكم مزاجية الخيال الخارقة في جزء من هذا الفن يمثل بل يجسد
ثلاثة أرباع الصورة الحقيقية للقصة القصيرة بل والقصيرة جدًّا، فإن الآلة التي
تشتغل بها القصة القصيرة وكأنها تشبه(نظاما معينا يختلف عن كل الأنظمة في تهيئة
روح ومزاج وخيال تُجند كلها لتبني زفرة من زفراتها وتعكس بذلك عالما حاشدا من
الصور والأخيلة التي بإمكاننا تخيلها واستحضارها في زمن واحد ).
ونحن إذ نستعرض كثيرا من القصص ونقرأها نجد أنفسنا مأخوذين بكثير منها
لدرجة أن مجموعة قصصية قد تتربى في وجدانك
وتنشأ في روحك فتظل تسرد بمنوالها وأسلوبها مجسدا نمطيتها في كثير من أساليبك
البعدية، وقد ترفل العديد من القصص القصيرة بموجات خيال جامحة وصور جميلة أخاذة
ومفردات حية وجديدة، لكنها لا تؤثر فيك ولا تدعوك لأن تقتنص هواءها فتسبح فيه
وتبتكر على منواله صورًا تجازف بها لتصبح فنًّا بفن وجمالًا بجمال وصورة بصورة؛
ومن القصص ما كانت فيه الصورة بسيطة والخيال غير معقد والساحة بيئة صغيرة خصبة
لكنها ليست متعددة اللوحات ولا المسميات ولا المفردات، إلا أنها تتسلطن وتصبح
مالكة لذوقك تشتهيها كمعزوفة صباح جميلة؛
لأنها حية( فالقصة القصيرة الحية )
هي التي تمتلك سلطة مطلقة في استلهام النفس والذوق وتسكن الروح وتصبح مدرسة تحتذى
كما في قصص أنطون تشيخوف البسيطة التي أثرت بوقعها الحساس على كثير ممن يحيكون
القص القصير, واتخذوا من تلك المنهجية أساسيات لبناء خيالهم القصصي الكبير، فانظر
للمفارقة التي يعيشها كاتب القصة القصيرة، إنه يحكي عن عالم كبير في سطر أو سطور
وجيزة، وهذا هو الفن الخالد؛ أن تحكي عمر أربعين سنة في دقيقة، وهذا لا تفوز به
باقي السرديات بينما تتفرد به القصة القصيرة ويتميز به روادها الذين يعتلون منصة
هذا الفن؛ هم بحق رواد الفن الأصيل لبناء مسيرة الحياة في ومضات تضيء جوانبها .
ولهذا فإن فن القصة القصيرة هو الفن الذي لا يُهمل الصورة ولا الصوت
والإيقاع ولا يفوت فرصة اللحظة الآنية لتشكيل صدى في صورة حياة تتجلى فيها كل
الدلالات؛ إنما يجسد ذلك في لغة خاصة وإن لم توجد فإن القاص يُوجِدُها من عمق
خياله الأثير.
القيمة الدلالية والتحليلية لقصة صحوة
صحوة جاء عنوانا لقصة قصيرة اشتعل فيها الأمل بعد صمت دام عشرين عامًا،
وبعد صمت كان ما قبله ضجيجًا يدفعه لفعل شيء ما استدلت به القاصة بفعل الاستجداء؛
الآن تحول ذلك الاستجداء إلى حَيْرة يصعب تفسيرها إن تم القَبول، كيف لنصف إنسان
بعد هذا الصمت يقول سأصبح اليوم عريسًا(لم يصدّقوا أنني
سأهبط من عليائي يومًا ما..
صمتي الذي أشعلَ أوارَ ألسنتهم بالرجاء والاستجداء قبل
عشرين سنة, أخمدَها اليوم صوتي الذي انطلق ضعيفًا)
ما هي العلياء التي كان عليها هذا الإنسان؟ كأنه يقول : إن من حولي
كانوا يتمنون مني أن أفاتحهم بموضوع زواجي أن أقول هذا الكلام الذي كانوا يتمنونه
بالأمس؛ صار اليوم فأسقط في أيديهم، افتتاحية تجعل من القارئ الوقوف طويلا بين
حيرتين، حيرة ما قبل الحدث وحيرة أكبر (ما بعد الحدث ) لم يصدقوا أنني سأهبط من
عليائي يوما ما (ما) تلك النكرة المجهولة التي لم يحسب لها أي حساب .. يومًا ما
سأهبط من عليائي فأنا نصف آدم الذي ورث عن الأصل الهبوط إلى الأرض/ التراب /
الحقيقة التي خلقتُ منها، لا حدود للكبرياء سوى هذا التراب، ولا يطفئ شهوة
الانتشاء سوى هذا التراب، نحن نموت (لتُطْفَأَ) كل الأشياء التي جعلت من احتدامنا
قطعة من جسد يعتليها تراب يغطي سوأتها. علياء نفس تهبط شيئًا فشيئًا في نصف جسد،
وبالتالي يصبح كل شيء ممكنًا بعد أن كان ذلك الممكن محدود بكبرياء يشم أنفه
السحاب!
تقول القاصة د.عبير يحيى: "أريد بدلة كحلية, وقميصًا أبيض, وربطة عنق وردية. أريد عطرًا فاخرًا. أريد أن أحلق ذقني وشعري. وسأنزل
...." لم أكمل كلامي, قوطعتُ باندهاش الوجوه التي تكرمشتْ
وتغيّرتْ سحناتُها, وهربتْ منها الحياةُ هنيهة, كأنها رأتْ شبحًا, وجوهٌ طيبة
تأسّفتُ بيني وبين نفسي أنّني عكّرتُ سماحتَها وصفاءها, زعزعتُ أمنَها, وتمنيتُ لو
أنّني لم أُخرِجْ صوتي من قمقمه.
كانت أمي أول من أخرجتْها (زغرودةُ) أختي من الذهول!
وأعادتها إلى أرض المحسوس, فانطلق لسانُها بعبارات الحمد والشكر لله...
تكرار الفعل الحاضر المضارع للحالة (أريد) دليل على عدم الإرادة هنا
رمزية دالة على أن الرجل مقعدٌ، أريد..أريد...أريد...وفي أغلب القصص القصير المشبع
يُكره للقاص أن يكرر لكن التكرار هنا جاء يتيمًا في معناه يحتاج لإيقاع تأكيد
لمطابقة الحالة المرموز لها، ولم تشأ الكاتبة أن تقتني حقيقة واحدة لمدلول الفعل
أريد بل غالت في تكراره متعمدة لأنها لم تشعر في الوقت ذاته بتكلسه الزائد في النص
بل شعرت بالحالة التي تفتقد للإرادة، هو غير مستطيع وحين أكد على أريد قال (وسأنزل
..) الذكاء في رسم الكثافة الحوارية قوطعت في.... لم أكمل كلامي
من أين سينزل ؟؟ هذا السؤال المحوري الذي يتجول في القصة من بدايتها
حتى نهايتها لأن القاصة تتحدث عن قصة نزول ..وعلياء ..وهبوط.. وتراب..وطين... وماء
..وتفاحة ..كما سنقرأ في تلابيب ومتن القصة .
على سريرٍ لم أشأ أن أغادرَه! لم يُغرِني الكرسيُّ المتحرك بركوبه, وسرقَ الرعبُ
صوتي.. إرادتي, وبعضًا من ذاكرتي
هنا معرض الصورة التي نقلنا إليها بطل القصة، الذي يوجه خطابه للقارئ
بكل ألم، بل وبكل قوة فالهبوط الأول الذي لم يحدث هو بفعل الكبرياء الذي كسره فيما
بعد فعل السنين في اختزال الإرادة بفعل أريد وتحتم النزول لسرير وكرسيٍّ
متحرك..وسأنزل من الكرسي وأكسر هذه الدهشة العالقة على وجه أمي حين قررت النزول
عند رغبتها في الوقت غير المناسب معلنًا عن فحولتي الآدمية واشتهائي لحواء التي
لبثت في كهفي عشرين عامًا دون مواربة تدغدغ أحلامي وتراودني عن نفسي، (!. وبقيتْ هي.. حوّائي.. تراودني عن نفسي, تريدني أن أمتطي صهوةَ الحياة من
جديد! كيف أفعل ذلك؟
يختزل العجز في سؤاله المريب (كيف أفعل ذلك) كأنه ينتظر الإجابة منها؛
لأنه يعرف جيدًا قدرة نصفه المتبقي على الامتطاء ! (؟ وهل تقبل الحياة بأنصاف بشر؟ كيف يكون ذلك وقانون
الاصطفاء الطبيعي الذي يحكمها هو البقاء للأقوى؟! وأنا لستُ قويًّا أصلًا لأدخل في
تصنيف القوة! أم أنها احتفظتْ بنصفيَ العلوي لتضعني في قوائم قوانين المعاوضة؟! أو
لعلّي حصّتها من اتفاقية تقسيم بينها وبين الموت؟! وكلٌّ أخذَ حصّته مني ومضى!.)
يبرر لفكرته معددًا المبررات التي ليست له بل لها : هل تقبلين بنصف رجل
؟ الطبيعة للأقوى وأنا لست كما ينبغي كأي رجل مكتمل ؟ تكرار كلمة القوة هنا تسويغ
منطقي لتأكيد الضعف أو لاستلال إجابة تفيض بالحيوية تمنحه رخصة القوة المعنوية
التي تمنحها الأنثى لرجل يرى العجز في نفسه بينما هي تدير قانون القوة فيصبح من
خلال ذلك أقوى مخلوق وجد من أجلها، وهذه اللفتة من القاصة تعلم فيها أن القوة ليست
فيه, بل في أنثاه تلك الحواء التي أغرمته واستنزلته من كبريائه وفجرت جسده بالأوار
المشتعل الذي لا يهدأ... (لستُ قويا أصلًا)
لماذا جاءت أصلًا –هنا معترضة بين كل مصادر القوة (أقوى –قويًّا-القوة) أشعل
البطل قصة القوة مناصفة بين حواء والموت ! فهو لا يملك إلا الاستسلام
لشيئين: قوة حواء- وقوة الموت !
حواء التي أحبها أشعلت فيه الحياة. إنها عشرون عامًا لم يكن فيها حيًّا
رغم أنه يأكل ويشرب ويتحدث ويشاكس(تدلّكُ نصفيَ
الميّت, وكلُّها أملٌ بحدوث المستحيل) تراود
فيه الحياة وهو يرى ذلك النصف كائن شرس ميت، مثل أسد في غابة لا يستطيع النهوض
والجوع ينخر فرائصه، يرى الغزلان من حوله تتقافز وهو مثخن بالجراح ..دون جدوى !
وهل يتحقق المستحيل ؟
في بدلة كحلية وقميص أبيض... رأى نفسه اليوم رجلًا مكتمل القوة أمام
منزل حوائه التي هبطت إلى الأرض قبله لتحقق شهوة الماء والطين في صورة طفل يخرج من
ظهره لينزل في رحمها وها هو يحمل ظهره وينزل من عليائه ليتجرد من كبريائه ويتدثران
بنفس الثوب الواحد بعد أن مكث أربعين عامًا يحلم بحواء دون أن يقضمها تفاحة يستمرئ
معها أيام العذاب؛ فتعلق الشهوات في بلعومه الذي صار عَبْرة للألم والعجز وحلم
الإرادة !
نعم.. الخوفُ الذي تسلّل إلى كلِّ خليّة في أعضائنا النبيلة
وغير النبيلة, عند أول خطيئة ارتكبناها, وعُوقبْنا عليها بالطّرد... إنها تقتربُ بسرعة كبيرة, سأتهيّأ لعناقها لأسترَ بدنَها
بحركة تمثيلية, يااااا قسمتي العادلة, هيا حوااااائيييي... أنا الآن مسجّى على سريرٍ مدَولبٍ أمام عربة
الإسعاف
تسرد القاصة الحوار الداخلي المحتدم في نفس البطل وهو يعيش لحظات
تمثيلية بينه وبين نفسه لتبيين حالة العجز الكامنة في وسواسه الداخلي أنه سيجسد
القوة الامتلائية في التفافة رجل حول الأنثى كورقة الجنة حين خُصِفت لتستر الآهات
والعورات ومواقع النبض في روح الحياة، وتضع القاصة زيادة تكرار أو ضغط الألف التي
يرى كثير من اللغويين المآخذ في رسمها هكذا وفي رأيي الخاص أنه يجوز للخيال في الطباعة
الكتابية ما لا يجوز لغيره لتجسيد الصدى الداخلي، فالكاتب لا يتحدث وحده إنه
يتحاور فيه البطل والشخوص والأمكنة والأزمنة والأحداث والأفعال التي هي ليست منه
بل في شخصياته التي يرسمها هذه (يااااا – حوااااائيييي) مد خماسي لتحقيق الإشباع
النفسي بحجم الآهة المكتومة منذ أربعين مقسومة بين عشرين ما قبل العجز وعشرين ما
بعد العجز، عشرين القوة يمنعها الكبرياء؛ وعشرين العجز يمنعه التحقيق !
وقد أفضْتُّ في دراسة لي سابقة عن الصوت في القصة، مجسدة في ذلك أدلة
من القص الروسي لتشيخوف كان يعبر من خلالها عن صوت الأفعال في الأحذية والهمهمات
والدقات والكدمات والتعجب والضربات والضحكات، وحتى صوت الكرسي وهو يئن من كثرة
القعود عليه، فأرى هذه الحركة الطويلة عند الكاتبة د. عبير شيء منصف؛ فالرمزية المعبرة عن كثافة الروح ورمزية ودلالة
الطين والتراب والماء وحواء والهبوط والكبرياء والقوة والعجز، كل ذلك من تكوينات
الإنسان الذي يقوى فيتكبر ثم يضعف ويعجز ويؤول مصيره إلى التراب نازلًا وهابطًا
على كل حال .
نهاية بطل القصة
... أنا الآن مسجّى على سريرٍ مدَولبٍ أمام
عربة الإسعاف, وقد استوى الموتُ في كِلا نصفَيَّ, متدثّرًا ببدلتي الكحلية وقميصيَ
الأبيض وربطة عنقي الوردية,
التحليل التصويري نهاية وردية بربطة عنق خانقة للوقت واللحظة، قاتلة للدهشة
للفرح للانتشاء، رغم الألوان العاكسة للفرح في القصة فقد عبرت القاصة عن ألوان
تميز شخصيات القصة وتعطي دلالة لمنح لحظة فرح عمرها ثوانٍ مع ازدراء العجز ودهشة
المحيطين من الأهل والأصدقاء وبروز شخصيتن واضحتين في جوف القصة/ البطل المُقعد/
وحواء التي تلاحقه عبر كل الأزمنة، أزمنة القوة والعجز، وحتى زمن الاحتضار والفناء،
لقد أرْدَتْه حواء قتيلًا قاضية على ما تبقى من جزء يستحضر معه الذكريات ولذة
الشهوات المتصورة فيها تلك الشهوات المصنوعة بكل جسارة من طين اللذة مغموسة في ماء
الحياة والاستحياء. (وأصواتٌ كثيرة تأتيني من عالم الضجيج) إنه عالم الانفجار الثاني، بعد الانفجار الأول ؛ فهو في كل مرة
يقع في ذلك العالم هابطًا من عليائه، وماذا عليه من أهل الدنيا الذين يقيمون
حياتهم بالدم والشهوات،(سمحت لبصري أن يبحث عن حوائي في باقي
أنحائها, قبلَ عبوريَ الأخير) لم يتنازل عنها وهو من هو يحيطه
جمعٌ من اللحم والدم وأصوات الإسعاف والألوان الزرقاء والحمراء تمازج بين الإسعاف
وكدمات حواء التي نالتها من أجل لحظة شرفية تمزق ثوبها لتبدي كثيرًا من نزفها
الداخلي قبل أن يحيط العالم بجسدها المكدوم هلع وولولة وصراخ يتلوه آخر؛ لكنه يبحث
في كل الوجوه العابرة والنازفة والباكية والصارخة عن حوائه التي أضاعها؛ وهي
تنتظره هناك في عليائها وهو في مهبطه الأخير(هربتُ من زوجي, بعد أن أمعن كثيييييرًا) الياء المشبعة دلالة صوت خفي يصرخ ناشزًا كغصن شجرة شذّ عن
المنبت مع فعل الإمعان ضغط هذه الياء يييييــ رمز يحيد عن صراط اللغة ليهتدي إلى
صراط الخيال؛ فلغة الخيال غير لغة اللسان، وجوف الخيال غير جوف المنطق .
(ضربتُه بتمثال أفروديت الذي كان يضربني به كلما لعبَ الجنونُ والسكرُ
بعقله) ماذا عن أفروديت والتمثال؟ هل التجسيد هنا مادي
ملموس ؟ إنها الأنثى الأفروديت التي خانت زوجها ربما خمس مرات طبقا لتلك
الجملة(أمعن كثييييرًا !! الذي كان يضربني به؛ الإيحائية عند د.عبير في هذه الجملة
واسعة الدلالة والمدلول(تمثال أفروديت) والعاكس والمعكوس التضاد الرمزي
والمعنوي(ضربته ....بتمثال..أفروديت... الذي ..كان .. يضربني به) إنه رد الخيانة
بالخيانة.. لكن هذا الرد كان مدفوع الثمن بثلاث ضحايا(برجلين وامرأة ) الزوج
الخائن العربيد! والرجل العاجز الباحث عن حوائه..والخائنة التي تستجدي المغفرة من
الأغراب!
(يا ويلي..... ياااااا ويليييي..) صراخ علني يتبعه ركل وضرب وتقطيع وتنيب داخلي.، إن القاصة تجسد
أصوات الضمير الحقيقية بلغة نعرفها جميعًا حين تبكي دواخلنا، واختلاف لغة الداخل
مع لغة المكان والزمان، لغة الداخل لها مسحة يمتلكها صدى طويل المدى، لكن لغة
الزمان والمكان تنتهي بانتهاء التواصل والعلاقات.
(ولم أرَ شيئًا أمامي, لم أرَ الرجل, ولم أرَ كرسيه.. لم أرَه...) التكرار في "أرى" وعدم استخدام الكاتبة لصيغة فعل
منفيٍّ آخر أو سياق جدلي يمنع هذا التكرار إنما هو من صنعة الكاتبة التي سارت على
وتيرة الوجع والتوجع والتندم والاستحضار والاعتراض، فكلها تؤدي إلى تكرار يلهج به
النادم والمستغيث والضعيف والمستجدي لدلالة الإطباق التام فهي في عماء تام لم أر شيئا أمامي (كافية لأن لا ترى الرجل ولا
الكرسي ولا المكان ...
فنقل إلى دماغي المحتضِر صورةً لامرأةٍ
مازال الرجل ينشد حواءه وهو يهبط شيئًا شيئًا، باحثًا عنها في عالم
الغيب والشهادة، أما عن جسده فقد أسجى أخيرًا، لكن دماغه المحتضر فإنه يستنسخ كل
شيء، ويثبت وجود حوائه في مثواها الأخير في دماغه.
السؤال المعلق في ذهن القارئ:
صورة المرأة التي أردته قتيلًا هي صورة المرأة التي تركت ثوبها على
موضع عجزه باحثة عمن يملأ شغفها الشبق، ويثري الكنز الخفي في جسده بدفق شهواته
اللامتناهية. هو يبحث عند مسقط رأسها، وهي تبحث عند موقع قدميه. أفروديت رمز للبحث
الذي لا يرتوي من اللهاث الإشباعي الأيروسي، تدافع متتالٍ يعقبه سقوط وفناء ترابي
يسبغ عليه دلالة العجز التام لإنسان يقع ويقف / يقف ويقع/ يحاول ويجازف/ لكنه لايتوانى
عن الهبوط إلى أن يحدث الهبوط الأخير.
تعليقات
إرسال تعليق