المدارس النقدية الروسية
المدارس النقدية الروسية
مقال بقلم الناقدة الذرائعية عبير خالد يحيي
يعتبر النقّاد الروس من أوائل النقّاد الذين أرسَوا أسس
وقواعد المناهج النقدية الحديثة, وكانت الدراسات الشكلانية أوّل من رسخت دعائمها
في روسية إبان الثورة الاشتراكية في العام 1917 ثائرة على الدراسات والمناهج
اللاعقلية كالرومانسية التي سلطت الضوء على الكاتب وإمكانياته الإبداعية, بينما
سلطت الشكلانية الضوء على النص, وأكدت على اهتمامها بأهمية الشكل بالنسبة للنص,
رافضة كل النظريات الأدبية وكل المعايير الرمزية والتاريخية والنفسية التي تحكم
النص, ماعدا الشكل كما قلنا, وأعلنت عدم اكتراثها بالكاتب كمبدع للنص, أي أنها
أهملت الكاتب كما أهملت الواقع بكل تظاهراته.
ومن الشكلانية
تارة, وعلى أنقاضها تارة أخرى, نشأت باقي المناهج النقدية الحديثة. ومنها الشكلانية الأنغلو أمريكية النقدية
الجديدة, التي بقيت مهيمنة على الدراسات الأدبية الأمريكية حتى السبعينات, والتي
تبنت النظرية الأدبية ل ( رينيه ويليك وأوستين وارين).
وسنعرض في هذا
البحث عرضًا مختصرًا لأهم المناهج النقدية الروسية :
1-
الشكلانية الروسية: "هي نزعة تهدف إلى تغليب قيمة الشكل والقيم
الجمالية على مضمون العمل الأدبي وما فيه من فكر أو خيال أو شعور"[1]
. وقد تناول الشكلانيون الأدب على أنه فن خاص لاستخدام اللغة بطريقة مغايرة
لاستخداماتها العملية, "حيث أن اللغة الأدبية ليس لها أي وظيفة عملية, وإنما
تجعلنا نرى الأشياء بطريقة مختلفة, فالشكلانيون يرون أن الفن وسيلة تمكّننا من
تغيير زاوية الرؤية المعرفية للأشياء من حولنا" [2]
. يقول شكلوفسكي في دراسته " تقنية الفن " 1917: " إن الفن هو نقل
الإحساس بالأشياء كما تُدرك وليس كما تُعرف, وتقنية الفن هي إسقاط الألفة على
الأشياء أو تغريبها وجعل أشكالها صعبة, وزيادة صعوبة فعل الإدراك ومداه, لأن عملية
الإدراك غاية جمالية في ذاتها ولا بد من إطالة مداها, فالفن طريقة لممارسة تجربة
فنية الموضوع" [3].
وهكذا جعل الشكلانيون الفنَ ( الأدب)
أداة إدراك, هدفه متابعة سيرورة هذا الإدراك عبر صعوبة الشكل, بغض النظر عن
المضمون, " فالفن هو طريقة إحساس بصيرورة الشيء, ولا يهم الفن ما قد
صار" [4]
كما يقول شكلوفسكي.
النشأة والتطور:
كانت النشأة على يد مجموعة من طلبة الدراسات العليا في
جامعة موسكو في العام 1915, شكّلوا " حلقة موسكو اللغوية", كان رومان
جاكبسون الشخصية القيادية لهذه الجماعة المنظمة, التي كانت تحاول استقطاب الحركة
الطليعية الأدبية للقضاء على المناهج النقدية واللغوية القديمة.
في العام 1916
اجتمع عدد من النقاد وعلماء اللغة وألّفوا " جمعية دراسة اللغة الشعرية"
التي عُرفت باسم أبوجاز Opojaz, من
أبرز أعضائها فيكتور شكلوفسكي وبوريس إيجنباز .
التقت المجموعتان, فتشكّلت المدرسة الشكلانية الروسية .
من العوامل المؤهبة التي مهدت لظهور الشكلانية الروسية كانت" مجموعة
المستقبليين" الذين كانوا قد حدّدوا عملهم "بالعمل من أجل التنظيم
الصوتي للكلام, من أجل تعدّد الأصوات في الإيقاع وتسهيل تركيب الجملة واكتشاف
الوسائل الموضوعية الجديدة "[5],
وكان عملهم لا ينتمي بأي حال إلى خاصية جمالية, وإنما عمل مخبري هدفه التعبير
الأفضل عن الأحداث في ذلك الوقت, تنفيذًا
لمطلب اجتماعي كما أرادوه.
في البداية كان تركيز الشكلانيين على الشكل في العمل
الأدبي, وأن النقد يجب أن يتناول النص من الداخل فقط أي (أنساق لغوية) لا تتجاوز
ثلاث دعامات :
·
علمية ( تقوم على منهج علمي وصفي لا يُعنى بنشأة النص
وإنما بتحليله, فكان المنهج المورفولوجي هو أساس هذه الدعامة, يُعبّر به نقديًا
ووصفيًّا عن الظاهرة الأدبية),
·
وجمالية ( على اعتبار أن غاية الأدب جمالية وليس نفعية,
وأن وظيفة الأدب استطيقية, أي منطلقة من علم الجمال, لا تخدم غرضًا تعليميًّا أو
أخلاقيًّا أو اجتماعيًّا, غايته الإدهاش وكسر الرتابة والتوقع بصدم القارئ, أو
إذهاله, أو تغريبه, لذلك كانت هناك دراسات كثيفة للأدوات والاستراتيجيات الأدبية
ليتلقى القارئ النص تلقٍّ صادم.
·
وأدبية : تكمن برفض الصور الأدبية التقليدية والاتجاه
نحو ابتكار صور جديدة, والتركيز على اللغة الشعرية وتوليد الإيقاع في التراكيب, فاختار
الشكلانيون النظام اللغوي كأقرب نظام يشبه الأدب وإن اختلف عنه في الوظيفة,
على أساس أن مادة الأدب هي اللغة وأن اللغة تمثّل حلقة الاتصال بين الأدب والحياة
او المجتمع, فاعتمدوها, فكانت وظيفة الأدب الاجتماعية في نظر الشكلانيين تنحصر في
هذا العنصر اللغوي الوسيط فقط, ولا يجب البحث عن غير ذلك من النتائج الاجتماعية في
أي عمل أدبي.
لقد كانت الشكلانية في مرحلتها الأولى أيضًا ثورة على
الآراء والنظريات الماركسية, ونظرية الانعكاس لجورج لوكاتش, وأما المرحلة الثانية
فقد شهدت انبعاثًا جديدًا على يد جاكوبس وباختين, بعد أن لمسا موتًا
وشيكًا بالشكلانية تأتى عن الحصار الروسي لها في العام 1930 بسبب إنكارها للنواحي
السياسية للإبداع , وإقصائها النص عن الواقع الخارجي, فحث باختين على ضرورة عقد
صلح بين المدرسة الشكلانية والمدرسة الماركسية على اعتبار الأخيرة ظاهرة اجتماعية,
فتحقّق له(اجتماعية اللغة), وبذلك أخرج الشكلانية خارج النص, دون أن يحسم خروج كل
الشكلانيين معه, فبقي على مسافة حذرة بينه وبينهم, وبينه وبين نظرية الانعكاس, فقط
أعلن قناعته بديناميكية اللغة وباعترافه بظاهرتها الاجتماعية.
أما جاكبسون فقد أنشأ حلقة وصل بين الشكلانية والبنيوية,
حينما قدّم في دراساته النقدية الشعرية نوعًا من التوافق بين الشكل والمضمون أو
المحتوى, وركّز في مقالته " اللسانيات والشعرية " على العلائق القائمة
بين اللغة اليومية وبين اللغة الشعرية, ووصل عبر كلامه عن الشعرية إلى تحديد ملامح
نظرية الاتصال بعناصرها : المرسِل ( الشاعر) الذي يرسل رسالته (
قصيدته) عبر قناة داخل سياق, هذه الرسالة تحمل شيفرة أو عدة شيفرات
إلى متلقّي يقوم بحل شيفراتها, وكل عنصر من هذه العناصر له وظيفة لسانية مختلفة عن الأخرى.
تقهقر الشكلانية واضمحلالها:
يرجع الكثير من الباحثين الفضل والسبق للمدرسة الشكلانية في تأسيس نظرية
التناص بملامحها وجذورها الأولى, يقول شكلوفسكي :" كلما سلّطت الضوء على حقبة
ما, ازددت اقتناعًا بأن الصور التي نعتبرها من ابتكار شاعر إنما استعارها من شعراء
آخرين"[6], وكان أول من أشار إلى
ظاهرة التناص.
كما أن أبحاث الشكلانيين كانت ثروة حقيقية في الدراسات
الأدبية في حقل المفاهيم والتصورات من حيث الأدوات والإجراءات التطبيقية, كونهم
درسوا العمل الأدبي لذاته, وغاصوا في
داخله, بين مستوياته المتراكبة, المستوى الصوتي, والأسلوبي, والإيقاعي, والوظيفي,
فضلًا عن المستوى الشكلي وتعدّد الدلالات.
وإليهم يعود الفضل في دراسة النُظُم, ودور الكلام داخل
الكلام, واستخدام الحوار الخارجي ( الديالوج) والداخلي ( المونولوج) .
وبالمقابل, يؤخذ عليهم الكثير من المآخذ التي تنامت وتضخّمت مع مرور الزمن ومع تعنّتهم ومغالاتهم بها, ومنها أنهم أعطوا دلالات جديدة للمفردات نفسها, ما وصل بها في النهاية إلى المعنى أوالسياق العام الذي يهربون منه بتركيزهم على الشكل, وهذا ما أثبت فشلهم وعدم قدرتهم على الاستمرار بعزل النص وأنفسهم عن الواقع, لأن محتوى النص مرتبط بالواقع شاؤوا أم أبوا. لذلك شهد أواخر السبعينات اضمحلالًا كبيرًا لدور الشكلانية, حين تصدى لهم السياسيون, رافضين انعزال الشكلانيين عن الواقع, معارضين فكرتهم بعزل العمل الأدبي عن أصله وكاتبه ومضامينه ومعانيه والعوامل والظواهر الخارجية الثقافية والاجتماعية والتاريخية المؤثرة فيه, وتجاهلهم الوحدة النفسية للكاتب, الإنسان الاجتماعي الذي أبدع النص, والمتلقي الذي استهلكه. إضافة إلى اقتصار دراساتهم في الأدب على بعض جوانبه, ما جعل الشكلانية قاصرة عن مواكبة التطور السريع في الإبداع الأدبي.
وكان من أبرز المعارضين للشكلانية من النقّاد والباحثين في ذلك الوقت شارون كرولي, وجيمس ويليامز.
[1] - المدرسة الشكلية
الروسية – مقال ل/ إسراء أبو رنة – مجلة سطور – 11 أغسطس 2019
[2] - في نظرية الأدب
والنقد الأدبي – الدكتور يعقوب البيطار- كلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة
تشرين – وزارة التعليم العالي – الجمهورية العربية السورية – 2007-2008 صفحة 146
[3]- النظرية الأدبية المعاصرة , رامان سلدن- ص8
[4] - نقد النقد-
تزفيتان تودروف – ص 32
[5] - الواقعية
الاشتراكية – دز وائل بركات- ص 27
[6] - النص الغائب –
محمد عزام – ص 36
مقالة جميلة و مفيدة ومسجعة للذين يحاولون ان يفهموا ان النقد علم وليس انشاء وان تاريخه زاخر بالحركات والمناهج العلمية التي تناولت ظاهرة اللغة...انجاز بحثي رائع...دكتور عبير احسنت...
ردحذف