‏تموتُ الدّمشقيّة ولا تأكلُ بحبرها/

 ‏تموتُ الدّمشقيّة ولا تأكلُ بحبرها/

الأديبة السورية عائشة بريكات 




دمشقُ ذاتَ الرئاتِ السّبعِ.. الشرايين السّبعة.. سُرّة التراب.. نطفةُ الفتنة.. طفلةُ الأرض المدلّلة.. كاشان الألق.. فرودوسنا.. دمشقُ الجميلة بلا مبالغةٍ.. البسيطةُ حدّ التّرف.. الفيحاءُ.. الشّآمُ.. مدينةُ الياسمين.. باب الكعبةِ.. و شامْ شريفْ.
أن يُحبني اللّه (في نظري) تعني: أن أكون دمشقيّة شاميّة صالحانيّة
أسكن قاسيونَ و أرتوي من مَعين بردى.
فلسكان الشام حياة مغايرة ،تجربةٌ غنيةٌ بكل تفاصيلها (باللهجة الخاصة، باللكنة المُحبّبة، بمرونةِ التعايش ومجاورة كافة الأديان والمذاهب ).
لأهل الشام(للشوام) تراكيبهم اللغوية الغريبة يتداولونها كأنها أوراق عملة نقدية يمتلكونها كإرثٍ مستحقٍ و يُصرِّفون بعضها خفاءً في سوقٍ سوداء (للمفردات) مازالت إلى الآن محطّ حيرة العارفين، فكيف لنا أن نكتشف سببًا واحدًا مقنعًا لتكرار كلمة واضحة المعنى مثل:
(مسأسأ سأسأة، منكوت نكت، مشنشل شنشلة، ممزوع مزع)
و الحفاظ على رباطة ابتساماتنا الساذجة بعدها.
‏و أن تكون شاميًّا تعني:
أن تحفظ عن ظهر حبٍ رائحة نهر بردى قبل أن تلتصق به صفة(ئليط)
و أن الاستماع لكل ما أُلِّف من موسيقى(التْبت) لا يعنيكَ،
ولكَ أن تجلس على كتف بردى(تدندل) قدميك في ماءه منصتًا لخريره يكفيكَ لإزالةِ كل طاقات جسدكَ السّلبيّة وتنظيفَ هالته فتتشافى هناك روحيًّا.
أن تكون شاميًّا تعني:
أن رائحة المطر فوق المقابر التي تسمى(تُربة) تملأ رئتيكَ بالحياةِ و تتنزه بوقارٍ عن وجع الموت.
أن تكون شاميًّا تعني:
أن لقب(بندوق) لا يُعتبر سُبّة بل هو إشادة بالحنكة والذكاء وسرعة البديهة ولا علاقة لجحافل /تيمورلانك/ بذلك لأنه ببساطةٍ ( الحارة ديئة و منعرف بعضنا). ‏
أن أكون شامية ومن حي الصالحية تعني أن يمنحني الله قلوبًا إضافيةً
تساعد في ضخ الحب على من حولي لعل الخصب يدّب في نفوسهم البور بعد إكثاري من الصلوات.
و أن تتزوجي شاميًّا يا عزيزتي تعني: بأنكِ حصلتِ(عُصبة)
على ال (يؤبر قلب أمه)
و ال( يشْكلْ آسْ إخواته)
و ال(يا حوينته فيكِ ما بتستاهليه) برأي زوجة عمه
و بأنك يا مسكينة غدوتِ أُمًّا قبل أن تنجبي و يسحقك ألمَ الفطام.
ويا عزيزتي..
لاتشكي لدمشقيٍّ برودةَ أطرافك شتاءً
سيسارعَ بنخوتهِ المعهودةِ على إشعال (الصوبيا) وصنع كوبٍ كبيرٍ من الشاي لكِ
ثم الجلوس لمتابعةِ النشرة الاخبارية
و الاطمئنان على دفىء أطرافكِ وقتَ ( الاعلانات).
أن أكون شاميّة تفسّر جدًّا بأن رحلة الوصول من أطراف مدينة دمشق حتى حي زين العابدين تفوق سعادتها القيام بسياحةٍ عالميّةٍ.
و أن رائحة (ماء الزهر) من دكان بائع (الحُبوب) في سوق الجمعة تفوق في نشوتها العطور الفرنسية.
هذا و لم أخبركم عن رائحة (هريسة اللحم) التي تُطهى يوم الخميس في تكيّة جامع الشيخ محي الدين ابن عربي لتوزع على الفقراء وطلاب العلم والمارّة في السوق حسب المثل( ماحدا بياكل الاّ نصيبه)
‏‪ لا يهم وقتها انقطاعَ أنفاسي وأنا أحاول و أولادي جبل قاسيون صعودًا بين الحارات نحمل (سطل الشوربا) خبز( الفراني) الفول والحشائش الخضراء، بطيخة كبيرة وحقيبة الثياب.
رغم تذمر الأولاد مساكين
يجهلون فعلا مدى غبطتي و انشراح روحي حينما أصل لبيت العائلة المتوضع كشامة فاتنة مابين جامع نبي الله ذي الكفل و حي الكهف
كان بيتنا كبيرًا لا بمساحته ولا بعدد غرفه، كان كبيرًا بهم ،بشساعة قلوبهم، بأنفاسهم الطاهرة، بعطاءاتهم السخيّة رغم ضيق الحال
كنا أغنياء بهم حتمًا
‏‪ و كان الدخول عليهم فريدًا جدًا و كأني أشاهدُ توًّا حلقةً خاصةً من مسلسل باب الحارة
ببشاشتهم وعفويتهم و تَجَمُعهم على قلبٍ واحدٍ.
أمي عند الباب أجزم أنها قصدته عشرات المرات منذ الصباح استعجالًا لوصولنا تبادرني ضاحكة:
( عيشه وولادها والله ما رادها)
عمتي جالسة على كرسي (الاستحمام) بين ورودها تلقنهم الزهو و تتهجأ لهم قواعد الغرور
ترحب بنا قائلة:
(حبلة ومرضعة وساحبة وراها أربعة)
جدتي المقعدة (الباركة) على تختها لها لغتها في استقبال أولادي المتهالكين على حنفية الماء للشرب:
(إن شرب ضيفك استبشر بالخير)
و أنا كأني في متحف شرقي مسحورة بكل التفاصيل المحببة، بالذكريات المختلطة، بالعبق الخاص، بفناجين قهوتنا ال(كل واحد شكل)
بأياديهن التي أقبلها بحب حينما ترفعنها نحو وجهي عنوة
هناك حيث الشُبّاك(الطاءة) مازال موجودًا تعودت الجلوس، حيث المشهد ترتفع وتيرته بينهن تصاعديًّا والأمثال الشامية تغدو سيناريو ( متعوب عليه)
و أبي(رحمة الرب تغشاه) ينضم إلى حفلة الصيد خاصتي مباركًا احتيالي بحركة من رأسه
أرمي لهن طُعمًا فأرى شباكهن قد امتلأت بما لا يوصف إلا بال(حربأة)
:ما أخبار فلانة؟
/ : (على هشتها مرقعة بشتها، زبّال وحامل وردة)
/:( هالطينة مالها من هالعجينة)
/:(ضابعته)
/:(شو بتعمل الماشطة بالوش العكر)
/:( دموع الفاجرات حاضرات)
/:( أيام الخس بتنام ما بتحس)
/:(لسانها بسبع شطلات متل مقص السكافي مابيمشي إلاّ على نجاسة)
/:(رضينا بالبين والبين ما رضي فينا)
أهز رأسي موافقة منتظرة تدخل أمي التي تحبها (و أقصد فلانة)
/:( والله صَامتْ صَامتْ وفطرت على بصلة)
: والسكوت بيبيض البخوت)
: و سألوا الحمار مين أبوك قال الحصان خالي
و سألوا الجمل شو بتحمل قال لو ما الفزّة لكنت شلت الشام والمزة
: بدكن ياها تضل قطة مغمضة ولا متل الغرير كل ما ضربوه بيسمن
و تلتفت نحوي موبخةً ببشاشة أمٍ تفقه تمامًا بأني مرآتها
( أنتِ غيبي غيباتكْ وتعالي بهباتكْ)
(زتيلن راس الخيط و تركيهن يغزلوا ع كيفن)
و تلفظ جملتها المعتادة لإنهاء الجدال مع زفير طويل يحمل ( بتنفخ كل نفخة بتطبخ طبخة)
: قال اللي بيعرف بيعرف واللي ما بيعرف بيقول كف عدس
فالج لا تعالج
الفاضي بيعمل قاضي
قاله يا ابني شرفني قاله ليموت كل مين بيعرفني
وابوكن لما كان حي ما لبس جبة ولما مات بنيتو عليه قبة.
وقتها كنت أسارع لتدارك المشهد قبل أن تتحول غيبة فلانة لملحمة أمثال
( من تحت الزنار ونازل) بين أمي وبيت حماها متذرعة بجوع الصغار
لتبدأ لقطة جديدة على ( السفرة)
: يا عيني جحا جابن وجحا حياكلن
: أكل الأولاد تجارة ولبسهم خسارة
: شو عاملين غسيل معدة
صلوا عالنبي( العين بتاخد حقها من الحجر
و بفليساته حلال ع ضريساته
: ترد أمي
‏‪ كان وقت الزيارة ينتهي كالقابض على الماء وقتما تخونه فروج الأصابع وبأضعاف مضاعفة من الفرح والانشراح
و كان لا بد أن تكلّل الزيارة بفنجانِ قهوة مع السلامة
(الضيف المنظوم بيشرب القهوة وبيقوم)
و كانت قُبَل الوداع تشبه معزوفات شرقية على الخدود تتحول من بوسات (لمجىء) بين الضحكات و(الصهصلة)
و توزيع المال ( الخرجيات) على الصغار وهم يهمسون في أذني بتذمرٍ ( المصاري بحمالة صدرها مبللة كالعادة)
كم أفتقد ذلك وبشدة
و أن أكون دمشقية
شامية
صالحانية
من حي زين العابدين
أعشق لطميات عاشوراء وأحفظها وأشارك في أيام العزاء،
أقصد جامع الشيخ محي الدين لقراءة( مولد) وتوزيع الخبز تقربًا لله لعافية ابني المتوحد
و أن أكتب الشعر بينهم كأنني ارتقيت الساعة على الجمل بفخامةِ ال التعريف التي تكلل اسمي
طمعًا فقط بموت مشرفٍ.
تلك دمشق والغصة الآن تفور في الحناجر
تلك الدّرة المزدانة بالألق
دمشق الآن أرملة الخراب
اليتيمة بأمانها
المتشردة بشوارعها تهش الحزن عن رواد الطوابير
طوابير البطاقات الغبية
طوابير الجشع
طوابير حشرجات العمر المكلوم
طوابير الرجاء الأخير على هيئة
(الجنازة حامية والميت قط)
أقول الآه فزعًا .. خوفًا...
فإذ بملائكة السماء تتفرغ الآن لتبكينا.
العائشة

تعليقات

مشاركات شائعة

جماليات الجرح وتحولات الذات: دراسة ذرائعية في أعمال د. صباح عنوز الشعرية الكاملة بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي

بين البنية السردية والتشكّل القِيَمي: قراءة ذرائعية في رواية "مشاهد" للكاتب المصري شريف التلاوي بقلم الناقدة الدكتورة عبير خالد يحيي

الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية لديوان «رقصات الصمت تحت جنح الظلام» لـلشاعر المغربي سعيد محتال بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

تجلّيات الأدب التأمّلي في قصيدة الومضة دراسة تقنية ذرائعية مستقطعة في المجموعة الشعرية / بارقات تومض في المرايا / للشاعر السوري منذر يحيى عيسى بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

تجليات أدب الخيال العلمي في المجموعة القصصية / تشابك سرّي/ للقاصّة المصرية غادة سيد دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم د. عبير خالد يحيي

المشاركات النقدية الذرائعية

كبوة الريح/دراسة نقدية ذرائعية

مؤلف عبد الرحمن الصوفي

الشعر الحر وتمثّلات الدعوة لأغراض شعرية جديدة - دراسة ذرائعية مستقطعة في قصائد للشاعر العراقي وليد جاسم الزبيدي من ديوان ( مرايا الورد) بقلم الناقدة الذرائعية السورية د. عبيرخالد يحيي

جرأة التجريب ولعبة الميتاسرد في رواية ( لو لم أعشقها) للأديب المسرجي والروائي المصري الكبير السيد حافظ - دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة السورية الدكتورة عبير خالد يحيي

قداسة المكان و تحليق الذّات الملتهبة

التوازي في الدلالات السردية - دراسة ذرائعية باستراتيجية الاسترجاع في رواية ( بغداد .. وقد انتصف الليل فيها) للأديبة التونسية حياة الرايس - بقلم الناقدة الذرائعية السورية د. عبير خالد يحيي

قصيدة ترميم الروح

قصيدة النثر العربية المعاصرة

أدب الغزو من منظور ذرائعي

تعبير رؤية