"بِشلة"
"بِشلة"
للأديب المصري حسن فهمي
كان ضخم الجثة أجشَّ الصوت، تغطي وجهه آثار جروح متعددة بعضها قديم والآخر حديث، خطوط بالطول والعرض متقاطعة والبعض منها متعرج، وكأن خريطة تضاريس العالم قد رُسمت على هذا الوجه اللاحم، يُكمل المشهد شفتان غليظتان وأنف أفطس وأسنان بارزة فضية اللون.
كان يجلس وسط أشقيائه يقص عليهم مغامراته وبطولاته، وكيف كان يجبر سكان بعض الأحياء على النوم قبل غروب الشمس، وكيف أنه هوى بكفه الغليظ على ثلاثة رجال فقتلهم بضربة واحدة، كانت تلك الحكايات تنتشر بين الناس، فما اجتمع قوم إلا وكان هو بطل المشهد، يجترون أقاصيصه ويضيفون عليها ويهولون حتى أضحى الجميع يهابه وكأنه الرجل الخارق الهزبر الذي لا يُهزم ولا يموت، كانت الإتاوات تذهب إليه دون عناء منه أو مشقة، فويل كل الويل لمن حاول الامتناع عن دفع الإتاوة، لا يأتي غريبٌ للحارة إلا وحاول بِشلة تدجينه منذ اليوم الأول حتى يضمن ولاءه، فكان يستقبله "بطريحة" منتقاة من الشتائم والسباب والتهديد والوعيد، فإذا ما حاول هذا الغريب التصدي له نال جزاءه من الأتباع والمريدين، فيمشي على الصراط المستقيم ويصبح مملوكا من مماليكه.
ذات ليلة قدم أحد الغرباء إلى الحارة، فكال له نصيبه من التهديد والوعيد، فما كان من الغريب إلا أن اقترب منه، فزاغت عيناه يبحث عن أحد أتباعه، ولِحظِه السئ لم يظهر منهم أحدٌ في تلك الليلة، رفع الغريب يده ليهوى بها على قفاه، فكل ما فعله هو محاولة حماية قفاه بردائه الغليظ، إلا أن يد الغريب كانت أسرع، فصافحت كفه قفا الفتوة حتى سُمع لها دوي جعلت النوافذ تُفتح لاستطلاع الخبر، تلفٌَت الفتوة يمينا ويسارا ليتأكد من أن أحدا لم يرَ هذه الصفعة، إلا أن يد الغريب عاجلته بصفعة أخرى أقوى من الأولى رآها كل سكان الحي، أيقن الناس أنه لن يمر كثير وقت حتى تسيل الدماء أنهارا في شوارع الحي، فأغلقوا نوافذهم وأحكموا غلق الأبواب وجلسوا يرتجفون داخل بيوتهم، ويتنصتون بأذانهم علهم يسمعون صوت السيوف والعصي الغليظة وهي تقطع جسد الغريب، إلا أن الليلة مرت بهدوء.
في اليوم التالي اختفى بِشلة من الحي ولم يعرف أحدٌ أين ذهب، وتوسَّد الغريبُ مكانه والتف حوله أتباع بشلة وأخذ الناس يتداولون بطولاته ويرسلون له الإتاوات بانتظام.
تعليقات
إرسال تعليق