قراءة ذرائعية في رواية ( أضاف إلى عمري دقيقتين)

 

قراءة ذرائعية في رواية ( أضاف إلى عمري دقيقتين)

للأديبة المصرية الدكتورة  نادية فتيحة

بقلم الناقدة الذرائعية السورية  الدكتورة عبير خالد يحيي 



 

إغناء:

يعرّف الناقد قحطان بيرقدار في مقاله ( رواية السيرة الذاتية بين الواقع والمتخيّل ) والموثّق في مجلة ألوكة الأدبية واللغوية (29/ 1/ 2009) رواية السيرة الذاتية كما يلي:

"إنها حكي استعادي نثري, يتسم بالتماسك والتسلسل في سرد الأحداث, يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص, وذلك عندما يركّز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة, ويُشترط فيه أن يصرّح الكاتب بأسلوب مباشر  أو غير مباشر أن مايكتبه هو سيرة ذاتية, ورواية السيرة الذاتية فن أدبي يتكفّل فيه الراوي برواية أحداث حياته, ويجري التركيز فيها على المجال الذي تتميّز فيه شخصيته الحيوية, كأن يكون المجال الفني أو الاجتماعي أو السياسي أو العسكري.... إلخ, ويسعى في ذلك لانتخاب حلقات معينة مركّزة من سيرة هذه الحياة, وحشدها بأسلوبية خاصة تضمن له صناعة نص سردي متكامل ذي مضمون مقنع ومثير ومسلّ, ويحاول الراوي الإفادة من كل الآليات السردية لتطوير نصّه ودعمه ما أمكن بأفضل الشروط الفنية على ألّا تخل بالطابع العام حتى لا يخرج النص إلى فن سردي آخر , ولا يُشترط على الراوي الاعتماد على الضمير الأول ( المتكلم), بل قد يتقنّع بضمائر أخرى تخفّف من حدّة الضمير المتكلّم وانحيازه, بشرط أن يعرف المتلقي ذلك كيلا تتحوّل إلى سيرة غيرية, بحيث يظل الميثاق التعاقدي بين الكاتب والمتلقي قائمًا وواضحًا, كما تركّز الرواية السيرية على آلية السرد الاسترجاعي التي تقوم بتفعيل عمل الذاكرة وشحنها بطاقة استنهاض حرّة وساخنة للعمل في حقل السيرة الذاتية . "

التبئير الفكري :

هذا المنجز السردي هو العمل الروائي الأول للكاتبة, وقد اختارت أن الكاتبة أن ينطلق قلمها من ذاتها, وهذا سلوك طبيعي, تقرّه الذرائعية, فلابد لأي كاتب من أن ينطلق قلمه الأدبي من نفسه أولًا, على مبدأ المحفز النفسي والاستجابة السلوكية, وقد يختار الكاتب أن يضع بعضًا من ذاته وواقعه في العمل, أو أن يضع فيه ذاته وواقعه كاملًا  كما فعلت الكاتبة, واختارت الجانب الاجتماعي من حياتها كبؤرة ثابتة حامت حولها كل الأحداث والأفكار,

 فتجنيس الرواية هنا رواية سيرة ذاتية اجتماعية,  وقد  أقرّت الدكتورة نادية بذلك من خلال تكرارها عبارة ( حتى كتابة هذه السطور) , الرواية فيها الكثير من الحقائق الواقعية, والقليل من المتخيّل السردي. يستطيع من يعرفها شخصيًّا أن يؤكد ذلك, بل ويستطيع أن يشير إلى مكامن المتخيّل السردي. 

الفكرة التي سيطرت على كل الرواية  والتي صاحبت أيديولوجية الشخصية البطلة هي الصراع بين الفكر الوجودي والإيمان بالقدرية, والبحث عن الحكمة المتوارية خلف الظواهر القدرية, وهو صراع نشهده في كل المراحل العمرية التي اختارت لها الكاتبة أن تتجسد بشخصيات ثلاث أعطتها أبعادها وتسمياتها, وهي في الحقيقة مراحل عمرية, مارست عليها الدكتورة سطوة الكاتب, فجعلتها تقدّم نفسها ضمن الحيّز  الذي وضعته لها دون زيادة أو نقصان, وبنت لها الفضاء المكاني  والمحيط الاجتماعي, كما بنت لها المجال الزمني العاطفي  والسياسي,  بترتيب محكم.

الخلفية الأخلاقية :

عندما يقدم الكاتب عمله الأدبي لا يحق للناقد أن يناقشه في مجرى الأحداث الذي اختطّه لنفسه, فهو حرّ  في تقديم نوع العسل الذي يقدّمه للمتلقي , كما هو حر ّفي اختار الأزهار التي يحبّ أن يأخذ منها الرحيق الذي يحبه, لكن الناقد لا بد له أن يشير إلى سمّ يخالط هذا العسل, لقد شعرتُ بلسعته عندما تحدّثت الكاتبة عن امتعاض البطلة من أولادها حينما  أكّدوا انتماءهم إلى وطن أبيهم ( سورية) في ظروف تعاطفية مع ما حلّ من دمار وخراب في ذلك الوطن وصمتهم بالجحود,  وكأن سوريا بلد يعادي مصر  أو العكس, وليسا بلدان شقيقان كانت تجمع بينهما فيما مضى وحدة استمات الشعبان السوري والمصري في سبيل استمرارها, بل كان زوج البطلة من ضحايا تلك الاستماتةز

وبلغ السم ذروة تركيزه في عبارة ( وانتصر الجاحد السوري, فوق أرض مصرية) ! لقد كانت الحكومة المصرية مشكورة ً أكرم من بطلتها في الاحتواء, واستقبلت السوريين استقبال الأخوة ولم تمنّ عليهم الاستضافة بل اعتبرته حق الأخ الضيف على أخيه المضيف, ولم ولن ينسى السوريون ذلك, فهم ليسوا بجاحدين كما تراهم, وإن كانت لها تجربة شخصية مع ندٍّ فلا ينبغي التعميم. وحتى كما ورد في الرواية هي استضافتهم ببيت تملك نصفه, والنصف الآخر يملكه زوجها, أخوهم  السوري.  

لقد تناقضت  البطلة ( كما قدّمتها الكاتبة) مع نفسها عندما خصّصت وتعاملت مع الصفة البخل على أنها صفة خاصة بالزوج السوري, وهذا نوع من العنصرية القومية, رغم أنها كانت قد خبرت البخل في شخص مصري , قريبها ارتبطت به بعقد زواج احتاجت أكثر من ثلاث سنوات للفكاك منه, ولم تحصل على الطلاق إلا بعد أن ساومها مساومة جشعة, فكيف وصمتْ قومية كاملة بالبخل؟ بينما البخل صفة إنسانية غير مقترنة بجنس بشري أو لون أو قومية ؟!

أطلقت الكاتبة على لسان البطلة  تسميات تهكمية على  شخصيات عامة ( جيجي= جيهان السادات – سوزي= سوزان مبارك), كما أطلقت اسم ( داعش) على الشخصية المعارضة, وهو نوع من الاستهزاء, إن لم نقل تنمّر, غير مقبول في العمل الأدبي, كل ما تقدم هو اختراق للمنظومة الأخلاقية العالمية, يسمح بوضعها أدبيًّا تحت  مبدأ التعويض الأخلاقي Doctrine of compensation   

المستوى المتحرك :  

استطاعت الكاتبة أن تشدّ القارئ من عتبة العنوان ( أضاف إلى عمري دقيقتين) ليبقى يبحث عن مَن قام بفعل الإضافة, وكيف  تمت تلك الإضافة, ولماذا ( دقيقتين)؟ , إن الآجال والأقدار هي غيب الله في خلقه, الخالق وحده من يملك التغيير فبها بالزيادة أو النقصان, فالجواب المتوقع أنه الله, وبقي التشويق في البحث عن سر كلمة ( دقيقتين) التي لم يأتِ ذكرها إلا في نهاية العمل, لنجد أن الكاتبة كسر ت أفق توقّع المتلقي, فالفاعل ليس الله جلّ وعلا بل هو الحبيب السابق, و( الدقيقتين) هي لفظة مفردة  في  عبارة طلبية  نطق بها الحبيب السابق في غرفة  مكتظة بفريق طبي هي غرفة العناية المشددة في المشفى حيث ترقد البطلة : اتركونا لحالنا دقيقتين.


الزمكانية : 

الزمان أتت به الكاتبة بطريقة غير مباشرة عن طريق ذكر أحداث سياسية معروفة الفترة, مصاحبة للأحداث المسرودة , أما الأمكنة فقد ذكرتها الكاتبة ذكرًا مباشرًا, وهي متنوعة بين البيت والمدرسة والحي, والكلية, والمشفى....., وبلدان مختلفة.

أما عن التقنيات السردية التي استخدمتها الكاتبة, فقد تنوّعت بين تيار الوعي, والذكريات والخطف خلفًا, والحوارات الخارجية التي جعلتها باللهجة العامية.

 أما عن طريقة سرد الأحداث فقد استخدمت الطريقة التقليدية السببية: بداية – حبكة – نهاية,

السرد: على لسان ضمير المتكلم ( أنا), ما جعل الكاتبة تمارس سطوة واسعة على كل الشخصيات, فالمتلقي سيتعرّف على تلك الشخصيات من وجهة نظر البطلة, وبالتالي الكاتبة, ليكون محكومًا ومساقًا بالاتجاه الذي تأخذه فيه الكاتبة, فهل نجحت في ذلك؟! وجدتها مقنعة جدًّا في تقديم الشخصيات في قسم الطفلة, بينما قلّت قدرتها على الإقناع في القسمين التاليين, ومردّ ذلك إلى تصاعد نبرة ذاتية عدائية اتجاه كل الشخصيات المشاركة في العمل تقريبًا, ما انحرف بنا عن التعاطف مع الشخصية الرئيسة, لقد بدت كطفلة شخصية مظلومة لكنها قوية, استطاعت أن تثمر  في أرض بور, لكنها في المرحلتين التاليتين قدمتها الكاتبة كشخصية شكّاكة, تأخذ حقّها بالحيلة وتواجه أندادها بأساليبهم وكأنها تقول لهم :  أسقيكم من نفس الكأس الذي سقيتموني منه.  وحدها شخصية إيمان هي من تفلّتت منها, لأنها تحاكي رغبة غائرة عندها, تشبهها بكل تساؤلاتها الوجودية, لكنها لم تصل إلى ذات المرحلة من السخط على الأقدار, وإن اعترفت بأنها تقبل بها خوفًا من عقاب الله وليس إيمانًا بها, كما أنها لم تصل إلى ذات الوضوح والحرية  في اختيار المصير , غلبها ما رسّخه فيها الأب من إيمان وتسليم, وما طفا على وعيها  وإدراكها وشعورها من عاطفة الأمومة.  وما كان يضير الكاتبة لو سمحت بدخول ضمائر أخرى , أو سماع أصوات بعض الشخصيات المشاركة في العمل , للتعبير عن نفسها بنفسها, والحدّ من سطوة الشخصية البطلة. 

رغم أن البؤرة  الفكريةالعامة للعمل قائمة على الصراع بين الوجودية والقدرية , إلا أن الكاتبة انتصرت للقدرية عندما أنهت الرواية نهاية قدرية .

الأسلوب :

أسلوب إنشائي بلاغي جميل جدًا, سلس وانسيابي, يقترب من أسلوب السهل الممتنع في الشعر, وهذا ليس مستغربًا أبدًا, فالكاتبة الدكتورة نادية شاعرة تمتاز  بجمال وتفرّد صورها الشعرية, أدخلت بعض قصائدها الجميلة في مبنى العمل ما خفّف من وطأة السرد, وأضفى جوًّا من العاطفة الرومانسية المحببة.  كان هناك استخدام كثير للتناص البلاغي مع النص القرآني.

كل التبريكات والأمنيات الطيبة للدكتورة الشاعرة والروائية نادية فتيحة على إصدار عملها الروائي الأول, وننتظر منها الكثير من الروايات في قادمات الأيام.

 

 

تعليقات

مشاركات شائعة

جماليات الجرح وتحولات الذات: دراسة ذرائعية في أعمال د. صباح عنوز الشعرية الكاملة بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي

بين البنية السردية والتشكّل القِيَمي: قراءة ذرائعية في رواية "مشاهد" للكاتب المصري شريف التلاوي بقلم الناقدة الدكتورة عبير خالد يحيي

الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية لديوان «رقصات الصمت تحت جنح الظلام» لـلشاعر المغربي سعيد محتال بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

تجلّيات الأدب التأمّلي في قصيدة الومضة دراسة تقنية ذرائعية مستقطعة في المجموعة الشعرية / بارقات تومض في المرايا / للشاعر السوري منذر يحيى عيسى بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

تجليات أدب الخيال العلمي في المجموعة القصصية / تشابك سرّي/ للقاصّة المصرية غادة سيد دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم د. عبير خالد يحيي

المشاركات النقدية الذرائعية

كبوة الريح/دراسة نقدية ذرائعية

مؤلف عبد الرحمن الصوفي

الشعر الحر وتمثّلات الدعوة لأغراض شعرية جديدة - دراسة ذرائعية مستقطعة في قصائد للشاعر العراقي وليد جاسم الزبيدي من ديوان ( مرايا الورد) بقلم الناقدة الذرائعية السورية د. عبيرخالد يحيي

جرأة التجريب ولعبة الميتاسرد في رواية ( لو لم أعشقها) للأديب المسرجي والروائي المصري الكبير السيد حافظ - دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة السورية الدكتورة عبير خالد يحيي

قداسة المكان و تحليق الذّات الملتهبة

التوازي في الدلالات السردية - دراسة ذرائعية باستراتيجية الاسترجاع في رواية ( بغداد .. وقد انتصف الليل فيها) للأديبة التونسية حياة الرايس - بقلم الناقدة الذرائعية السورية د. عبير خالد يحيي

قصيدة ترميم الروح

قصيدة النثر العربية المعاصرة

أدب الغزو من منظور ذرائعي

تعبير رؤية