إيقاع مبتكر في ديوان "موسيقى القرب" للشاعر المصري عبد الحكم علامي بقلم الشاعر والكاتب المصري عمارة ابراهيم
إيقاع مبتكر في ديوان " موسيقا القرب" للشاعر المصري عبد
الحكم العلامي
بقلم الشاعر والكاتب المصري عمارة ابراهيم
لم نصل إلى حد الكتابة
الشعرية الرامية بأطرافها إلى مشارف الغوص في الأعماق البشرية، وما أنتجت من محاسن
أو سوالب اجتماعية في الحياة. حيث يمثل الإدراك
الإنساني منافعه العامة التي تتوافق مع رؤاه وتطلعه،
ليحقق الإنسان عبر الأزمنة المختلفة منافع له في مجالات شتى، منها
الاجتماعية والثقافية والاقتصادية , وأنساقًا جمالية ومعرفية تضاف إلي ما
تحقق عبر الأزمنة الماضية للوصول إلي أعلي مراتب السمو، وأيضًا إلى نهضة خلاقة
تضاف إلي الرصيد الإنساني مبتعدًا عن التراكم
الكمي الذي لم يساهم فيما تحقق ولو بالشكل التقليدي الظاهر في الامتداد
النهضوي في البناء العام, ذات الطابع التقليدي الذي قدم كل ما لديه من إبداع
الشعراء في أزمانهم القديمة ولا يزالون في توهج ما نقلوا عبر شعريتهم لحد أن
تربعوا على عرش الشعرية العربية من دون غيرهم من الذين يكتبون على نسق هذا الطابع
التقليدي, مما دفع بالمجددين في
الشعرية العربية إلى البحث عن ضرورات جمالية يتجاوزون بها آفاق هذه الكتابة التي
توقف مدادها, وأصبحت مثل المصانع التي انتهت أعمارها الافتراضية، وتوجب البحث عن
التقنيات التي تتوافق مع التطور الحياتي الذي ذكرت.
وبدأت مسيرات التجديد
في منتصف القرن الماضي من الألفية الماضية مع شعراء العراق بدر شاكر السياب،
ونازك الملائكة، وفي مصر صلاح عبد الصبور وعبد المعطي حجازي وحسن فتح الباب وعبد
المنعم عواد يوسف وغيرهم وأيضًا شعراء شاركوا من لبنان وسوريا,
لتنتقل وتمر هذه المسيرات إلى الجيل السبعيني، ثم الثمانيني، ولكن
للأسف الشديد توقفت منصات النقد الأدبي, ليبدأ العراك بين التيارين التقليدي
والحداثي, وتتوه معالم كتابية جديدة حتى أن قصيدة واحدة من
هذه الكتابة، ربما تجاوز كاتبها آفاق حلم الكتابة المدهشة التي تسعى إليها مسارات
الكتابة الجديدة، وتحقق منها غاية الشعر العربي في مجاراته لكتابة الشعوب من
الأجناس المختلفة التي تفوقت علينا عبر أزمنة ليست قليلة، حتي تضاف إلي مسيرتنا
العربية إنجازها الشعري إلي أرصدتنا.
كان هذا المدخل هو
المنهج الذي عانقه الشاعر المصري عبد الحكم العلامي وأنتج منه ما قل في كم كتابته
الشعرية وما زاد في قيمته وفي جودته الإنتاجية.
ولا أبالغ في
القول،"عن معرفة وعن برهان"، أن ما كتبه عبد الحكم العلامي في مسيرته
الشعرية ذات الخبرات الممتدة وهي قليلة في إنتاجها
وقد بدأت مع ديوانه الأول " حال من الورد" لتستمر في قطف ثمار جمالها إلى
"لا وقت يبقى" ثم " موسيقا القرب" وغير ذلك من الأعمال
الشعرية التي تعد جناحًا مغايرًا لِمَ اعتادت عليه الكتابة الشعرية العربية في
عصورها المختلفة وبما تحمل من إنجاز خاص بهذه التجربة لتؤكد خصوصيتها وجوهر مدلولها
وعافية جمالها، غير أن شعرية عبد الحكم العلامي ساهمت مع تجارب أخرى في
ابتكار قصيدة جديدة تتمرد علي أشكال الشعرية وعلي قاموسها الشعري تستدعي مفردات أحوالها,
وترسم فضاءاتها بصور تشق أغوار واقعية الحدث في إيقاع لها يتناغم مع إيقاع المفردات
لتنسجم الضرورات الشعرية من التناص والمعجم الصوفي والفلسفي، الخ هذه
الضرورات التي اتحدت مع واقعية أحوالها وخرجت في مرسوم نظرية تعدد جمالها, لتحقق
دهشة الابتكار، بعيدًا عن الثوابت الشعرية المعتادة، تتحقق من هذه الكتابة ولا
يعنيها أن تندرج تحت مسمي اصطلاحي لها، قدر ما يعنيها إبراز جمالياتها التي
تفوقت، وقدر أن تساهم في تشكيل بنية غير مألوفة، تنطلق منها مراسم شعرية تتوافق مع
البيئة وتطورها الزمني الذي يبقي شاهدا بأحواله في مخازن التأريخ لضرورات
الاستدعاءات والشواهد.
لا تقف عند إيقاع حسابي
محدد، بل تضيف إيقاعها من تواتر أفعالها، غير مرسوم بدقة القانون الفراهيدي
الموحد، لتتجاوز نحو إيقاع جديد يرسم فتنته مع متلقيه حين يمزج بين إيقاع اللغة
وإيقاع الأحوال، حين يمزج الشاعر هذه الدفقة الإيقاعية التي ترتبها حركية الأفعال
مع تواتر إيقاع المفردات التي انسجمت مع مكونات البناء العام، حيث تكون هذه
المفردات خرجت من قاموس شعري ليس متجمدًا أو متحجرًا، ليكون رخوًا يصل إلى حد
الانسياب المتجه نحو آفاق تطلع التلقي للشعرية العربية
تتماوج في فضاءاتها
العامة والخاصة لتحقق أهدافها الجمالية، وهذا الأمر لن يتحقق إلا مع خبرات الكتابة
في جوهر الشعرية غير التقليدية التي لا تتشابه مع بعضها، أو تنسخ من بعضها، يتحقق
من ذلك أيضًا تمرد الروح عن هذه المعطيات لتنجذب نحو شرايين الأفعال المتحركة حد
انجذابها اليقيني, ليخرج إيقاع الشعرية من
هذه التكاملية. وهذا ما تحقق في ديوان" موسيقا القرب"
يقول عبد الحكم العلامي:
رجل مضيء
وامرأة مضيئة
كنت الدليل الأحد
كنت الدليل المفترض.
هذه السطور الشعرية
القليلة التي خرجت عن بنية شعرية غير مألوفة في تراكيبها وحتى في قاموسها، كما أن
الإيقاع المنتج هنا غير مألوف بسبب اختيار المفردات التي انسجمت أحرف كلماتها التي
منحتنا دهشة الاختيارات لهذه المفردات المتواترة وعلاقتها بمنتج الدلالات في
تشكيلها.
مثلا:
كيف وظف مفردتي الرجل
والمرأة في تشكيل عضوي يرتكن إلى تحقيق الدهشة في بنية شعرية مغايرة
يقول: رجل مضيء، امرأة
مضيئة حيث استخدم التذكير والتأنيث لتتحقق من مفردة "مضيء" أنساقًا
إيقاعية تناغمت في بناء السهل الممتع وليس الممتنع لتحقق إيقاعها المنسجم مع
الأحوال في حركية تواترها, فيقوم بتحويل هذه المفردة التي تبدو صماء في دلالتها
الواحدة إلى مسرحة المشاهد التي تخص علاقات الحياة بين الرجل والمرأة,
لتتعدد في دوال تحلق في الروح, لينتج هذا الإيقاع وهذا الفيض
الجمالي داخل السطر الشعري الذي يتواصل في انسجام دلالي متفوق.
يقول العلامي:
كنت الدليل الأحد
وكنت الدليل المفترض
ورغم مشاع هذه المفردات
في الحياة العامة واعتبارها تحاكي المألوف والتقليدي في عالم الكلام، غير أن
توظيفها في سياق شعري يتحقق منه غير المألوف وغير التقليدي من واقع موهبة خاصة
لكتابة خاصة تختلف مع بنية الكتابة الشعرية المتعارف عليها, لتظهر خبرة الشاعر
واضحة من واقع استدعاء القاموس الصوفي الذي يعتلي بنية أحوال الشعرية، لكن بحبكة
الشعرية التي تنسجم في كل مكوناتها, ليظهر الإيقاع الخاص
بهذه الأحوال في بنية خاصة يتم توظيفها توظيفا شعريا مختلفا أنتج هذا الإيقاع
العام من واقع دفقة أحوال, في تكثيف مدهش حقق النتائج الجمالية في بساطة, ومن دون
تعقيد أو تقعير ليتحقق المرجو لشعريتنا العربية بعدما تاهت معالمها بين عشوائية
المنابر وتوقف النقد العربي عن تصحيح مساراته ليواكب التطور الحياتي في صيغتيه
المادية والجمالية.
يقول العلامي:
سأضع علي هبة النار
براد الشاي
نعم إنني أفهم
سآخذ وجهي بعيدًا عن
صدة النار
حتى لا يتسرب الرماد
إلي عيوني
الرماد الذي شهدت غباره
ذات نهار عصرًا
عندما احترقت
"بخيتة"
قل لي يا أبي
لماذا احترقت
"بخيتة"
ذات الخمسة والعشرين
ربيعًا
في النهار ذاته عصرًا؟.
وتتوالج قدرة الشاعر
داخل النص، مبتعدًا عن التعسف في بناء السطر الشعري, بفرض عنترية مفتعلة أو قدرة
واعية بعلوم الكتابة أو الإسراف في طرح عوالم تحقق بروزًا معرفيًّا أو منهجيًّا على
حساب شعرية النص, بل تجاوز عن كل هذه
الدوافع والقدرات الذهنية التي تبرز في شعرية لا تتوافق مع بيئتها ومع ثقافتها، بل
قدم شعرية ما تفضي إليه الأحوال بعناصر ومكونات هذه الشعرية، فقد تجلت هنا في
نصوصه حالاته المختلفة ومزاجيته التي تأثرت بأحوال هذه الكتابة وقد فرضت معطيات
الجمالية والدلالية وقدرتها علي رسم وبناء الصورة عبر واقعية أحداثها وقناعاته
الشعرية التي رمت بكل الدوافع النفسية داخل النص، لتكون إيقاعًا يشبه إيقاع
الجنائزية في هدوء وانسيابية موسيقاه، وكانت هذه القناعات قد خرجت من رحم الحياة
بكل أفعالها المتحررة من التضاريس الجمالية المعتادة عليها الشعرية العربية والتي
يجب أن يتحرر منها الشاعر الذي يسعي إلى بنية كتابة جديدة تعتمد علي فرضيات واقعها
وانسجام وتآلف مكوناتها المستجدة.
يقول الشاعر في مقطع
آخر من القصيدة الديوان :
سامحيني يا نعمات
لم أكن أعرف أنك عناية
الله لي
وأنك تشبهين أمي
اخطفي لي حفنة بكفيك
من ماء ساقية الجزيرة
فأنا ظامئ
وقد ماتت "بخيتة"
ولا أحد يهتم بي غيرك
هنا
كنت قاربي
كلما عبثت بالبحر
وأنا كنت كثير العبث
بالبحر
وعيناك كانتا دائمًا
حارسي الأمين!
هكذا يؤكد الشاعر بأن
عنايته لهمّه وآلامه داخل النص إنما تأكيد علي عنايته في اختيار المفردات التي
تزاحم هذه المعطيات الحالية في قدرة على ابتكار هذه الكتابة الخاصة.
وأؤكد على أن اختياره
لنص "موسيقا القرب" من دون إضافة نصوص أخرى لهذا الديوان قد حقق تجانسا
إنسانيًّا مع القارئ والمتلقي, حيث أن هذه القصيدة- الديوان- قد رسمت حدود زمانها
ومكانها وحركية أفعالها بما تحمل من أبعاد اجتماعية وسياسية لشريحة مقهورة بين
أنياب حضارة لا تخدم إلا من أنتجها واحتكر منافعها, ومن ضفّرها بكل أنواع
الاستخدامات غير الإنسانية وغير المبررة لشعوب فرضت عليها ظروفها الاقتصادية دور
الخادم لهؤلاء النخبة, ومنها تشابكت أفعالهم ونتائجها في منظومة لا يمكن فك
طلاسمها، خاصة إنهم الذين صنعوها وأنتجوا منها كل آلام العالم الثالث.
يقول العلامي:
أنا رجل من إفريقية
منذ بدء الخليقة وأنا
أركل الحصي حافيًا
منذ بدء الخليقة وأنا
أبحث لي عن موضع
تحت هذي الشمس
أنا الرجل الممكن
الذي علم الناس
كيف تمتلك قلوبًا ترحم
ونفوسًا تعف
أنا الإنسان الفضلة
أنا البشر الناقص
الأهلية
أنا الإفريقي المهان! .
يسجل الشاعر في لمحة
شعرية متفوقة، أن الإفريقي الذي يعمل ويجد حتى يبحث له عن موضع إنساني في الخريطة
البشرية يليق بقيمه هذه، وهو الرجل الممكن الذي يعلم الناس كيف تمتلك قلوبًا ترحم،
ونفوسا تعف.
هذه الصفات الإنسانية
التي يجب أن يتصف بها الإنسان يحاول منها التفسير الفني الذي أضاف ضرورة حالية
تحقق منها صورة إنسانية وجمالية ترسخ قيم العفة والرضا والقناعة، معتمدًا على
المنهج النفسي الذي يساهم في تبني مثل هذه القضايا في جوهرها الجمالي في غطاء
التواصل الفلسفي والمعرفي الذي يستند إلي خبرات الشاعر وحسه الإنساني, من هنا نصل إلى حقيقة
واضحة تؤكد أن الشعراء الذين يعيشون اللحظة الراهنة وقضايا الإنسانية العامة
والخاصة ويملكون أدوات شعريتهم بمعايرها المعرفية والجمالية المختلفة يستطيعون
الوصول إلي ما يسعون إليه من إنتاج المألوف وغير المألوف الذي ينحرف في سياق شعري
جديد, لتخرج القصيدة حسب ما أفرزت هذه المعطيات مجتمعة وحدت بها التقنيات المستجدة,
لتتحقق المصلحة الجمالية المشتركة بمنتجها المتطور في الإيقاع وفي التراكيب
والبناء والصور الجديدة واستخدام تناص التراث والمعارف, لتنصهر في وحدة جمالية
متكاملة تقودها الأفعال المتوغلة في حركيتها المتوالية في وحدة الأحوال عبر قصيدة
تتفرد عن غيرها, وهذا ما تحقق في القصيدة -الديوان-، موسيقا القرب.
عمارة إبراهيم
شاعر وكاتب مصري.
تحليل نقدي جميل من شاعر يفهم الشاعرية والشعرية بشكل متزن...أحترامي الفائق للشاعر العلامي...تحياتي لك شاعرنا الأنيق حرفا وشخصاً
ردحذفأخوك عبد الرزاق الغالبي