يكاد رمزه يُضيء بوحا

 


يكاد رمزه يُضيء بوحا

 

دراسة نقدية ذرائعية مستقطعة في ديوان ( عابر ينتظر) للشاعر عمارة ابراهيم

 

بقلم الناقدة الذرائعية عبير العطار

المقدمة

عندما نبحث عن مقدمة نكتبها لشاعرنا الكبير عمارة إبراهيم فعلينا أن نسدد هدفا في مرمى قصائده لنقول عنه أنه شاعر مهموم بقضايا الوطن حد الوجع, ولا يجد ما يلوذ به سوى شعره الذي قد يعبر به نحو بر من الأمان المطلق أو الفناء المطلق, لذا هو عابرٌ ببوحه مرحلة الآنية لينتقل بنا نحو رؤيته للمستقبل ولا ينسى أثناء ذلك أن يتوقف عند محطاتٍ أثرت فيه كثيرا.

السيرة الذاتية

-         ولد في قرية قاو النواورة مركز البداري حافظة أسيوط

-         عضو اتحاد كتاب مصر

-         عضو أتيليه القاهرة ودار الأدباء

-         عضو معجم البابطين – النسخة الثالثة

-         عضو الموسوعة الكبرى للشعراء العرب صدرت من المغرب وتناولت الشعراء من عام 1956 حتى عام 2006- بروفسيور فاطمة بوهراكة

-         ترجمت  بعض أعماله الى التركية والانجليزية

-         تم تدريس بعض أعماله في جامعات:غازي انقرة – تركيا بروفسيور موسى يلدذ جامعة قناة السويس كلية التربية بورسعيد ،أد حسام عقل جامعة حلوان كلية الآداب صحافة وإعلام أد عصام محمود

-         نال تكريمات داخل وخارج مصر ونشر في معظم الدوريات العربية والمصرية

إصداراته

-         الصعود إلى الرحلة القادمة – نشر اقليمي

-         نافذة على غناء الريح – الهيئة المصرية العامة للكتاب

-         مرايا عطش – أصوات أدبية

-         طلوع العصافير – اتحاد الكتاب

-         غرفة ترتب الظل- الهيئة المصرية العامة للكتاب

-         المنازلة – هيئة قصور الثقافة

-         مختارات شعرية (المنازلة) – هيئة قصور الثقافة

-         عابر ينتظر- الهيئة المصرية العامة للكتاب

-         تحت الطبع : ديوان ثرثرة لن تفضي إلى موت

البؤرة الأساسية الثابتة

-         شاعرٌ نقطة فورانه تبدأ من أرضه، تتجذر ثورته في بركان وطن يئن من الوجع، شاعر الأرض يسكب ماء البحر في نهر الروح ويأبى الرحيل لأنه يؤمن بمسار الضوء الحتمي الذي سيأتي يوما ليقشع الغيوم وتنتفي هيمنة الظلال على ميادين بوحه.

الاحتمالات المتحركة في النصوص شكلا ومضمونا :

·        مقاييس نقد المعنى :

 

1-    مقياس الجدة والابتكار

 لدى الشاعر الكثير الكثير من الابتكار الفني في رسم صوره ويصعب إحصائها :

مثال:  قصيدة اشتياق  من ديوان عابر ينتظر

-         كلما اشتقت إليها

           أقفز فوق مساءات التمرد

-         غير أن النوارس

 كانت تلملم من ذاكرة الأسئلة

حليب الغياب من دفاتري القديمة

2-    العمق والسطحية :

تقف كثيرا على القصائد متأملا أين ستأخذك القصيدة فلا عميقة حد الرمزية المطلقة  ولا هي بسيطة حد السطحية لكنها أبيات تسترعي الإنتباه والتركيز كي يصل لك المعنى وتستطيع قطف ثمارها، يضع يده على المؤلم من الأحداث ويركز على معاناة الشخصية الحقيقية وسط المزيف من كل شيء.

·        مقاييس نقد العاطفة:

تناول  العاطفة  في ديوان عابر ينتظر مرة كانت امرأة الاستثناء و مرة هي الشمس ومرة هي المرأة التى تشارك الرجل كل شيء حتى تعاسته في علاقة ممتدة حتى وصلت خريفها ولم يكن فيها بهجة إلا الذكريات .

مثال من قصيدة رجل وإمرأة:

رجل وامرأة

يتممان أضرحة التفاصيل

في أقوال الحكائين

كي لا ترحل الملائكة

مثال آخر من قصيدة إمرأة الاستثناء

أنت إمرأة ليست من طين

بل خلقت من نار

أو حتى جحيم

لتدفئة الأرض بما رحبت

بين الضاد وبين السين

أنت إمرأة صكت حرفا من دمها

تنتج حُبا في رحلتها

يسعد بشرا في صحراء

يسكننا أو في صرخة أنهار

جفت تحت غيومٍ وصقيع

1-    مقياس الصدق والكذب:

وما أصدق ما يقوله عمارة ابراهيم الشاعر المرهف الحس داخل قصائده فإذا ثار ثرت معه كمتلقي وإذا أحب قفزت مع فضاءاته المتعددة وإذا تحدث عن الوطن تمنيت لو كنت تمتلك حبا يشابه بعضا من عنده ...تتبنى مخاوفه حول مصير الوطن ما بعد ثورة 2011 ومابعدها وقضاياه التى تئن من فرط الألم وترسو على شاطىء قلبه الحنون لتبرد نارك المتقدة من صور الخيانة  بعد الثورة والثورة الأولى والمنصات التى تبيع الخراب للشعب،تحاول أن تلتقط مع الشاعر ضوء الأمل المنبعث من أسئلته وعلامات التعجب فيركز دوما على وجود بقعة ضوء وسط الظلام الحالك والمهلك للشعب المنتظر للتغيير

يقول مثلا في قصيدة أنا

أنا سيد العارفين

ارسم غيمتي فوق أكف الله

أزف ضوئي في حضرة النابهين

وأنحني عند لوزة الروح

نغوص في أعماق اليقين ما بيني

بيني مفتاح اليقين

يفك زمان اللامكان

ويفتح لي غيمة الماء

3-     القوة والضعف :

قصائد الشاعر قضايا حقيقية في غالبيتها عبر فيها عن الحزن والألم بقوة كما تناول مواضيع بصورة تخصه وحده  أباح بها بمفردات سلسة ويفاجئك  بصورٍ تحتوي تناقضا شكليا لكنه في حقيقة الأمر يصنع خلطا مختلفا بين الذات وما يحاوط الذات ،يعطيك صدمة كهربائية لتفيق وتعاود التركيز(والصقيع في ربيعنا الممطر)، ( أن غبارا لا يلبث أن يطفو بين الزمن الواقف عند حدود الموت حتى يرسو)(وأرضكم باتت له المنفى وصقيعها الفائر) ،كذلك تمكنه من خطف القاريء  أثناء استرساله بالقصيدة وإمكانيته النيل من عواطف المتلقي لتبقيه معه حتى يعبر جسر الروح للنهاية وهو عنصر قوي للغاية

لكنه  حبس نفسه في دائرة الأرض وتلك أحسبها النقطة الضعيفة حين تدور عجلة خيالاته في كثير من الأحيان حول المحطات، الأرصفة، الوقت ،السفر، البحر، النهر وكذلك الظل ورغم أن الشاعر يمتلك ثقافة واسعة إلا أنه أصر في بعض القصائد على التكرارية فأحيانا لها مكانتها لتأكيد المعنى والتوقف عندها وأحيانا أتصورأنه كان بالامكان الاستغناء عن التكراريات إما بمرادفات أو ضمائر أو التخلص منها

مثال لتكرارية منطقية وتأكيد المعنى:

هذا فيصل

مدفوع بشعاراتٍ

تستبدل الانتظار

فيصلٌ

يبصق الموت في أسواقٍ مسروقة من ضوئها

ومثال آخر لتكرارية غير منطقية تحدث إرباكا:

عامان مرا والأبواب مفتوحة

لا تحتوي غير أرملةٍ

تعلن عن نفسها لبائع الخمور

صائد الفرائس

وطاهي الكلام

يحملون بضاعتهم

في بورصة المضاربات

لاغتصاب أرملة

أعلنت عن نفسها

في نهارات الضجر

·        حركة المضامين والأفكار والدلالات

-         شاعر مهموم بقضايا الوطن والأرض تسيئه الخيانات وتضطرب نفسه كاضطراب البحر ..تتنازع في نفسه الأرض والسماء  وما يحيطهما فهو شاعر للأرض  متأثر بالنهر والبحر والظل تؤرقه  قضايا  الوطن ..الثورة والثورة الأولى وهل هناك ثورات قادمة!

-         حتى وان ابتدأ بقضية عابرة أو قصة شخصية فإن كان وطن الشاعر أحفاده فوطن البراءة أهلكتها الهجرة الغير شرعية من الحروب وغيرها مثل  ما بثه عن معاناة الأطفال في قصيدة وهم الشاطيء من ديوان عابر ينتظر

مثال من قصيدة وهم الشاطيء

-          ستخبرني أحاديث البحر 

                   عن مقايضة الموت

                   وقت عبور الحدود

                   لصمتٍ يراقب طفله الميت..

حتى يصل بنا إلى في القصيدة نفسها:

                  فتطفو فوق المياه قصة بوح لهم

و أشيد للشاعر أن رغم قتامة الصورة  التى من واقعنا المرير إلا أنه متفائل يحلم ويحلم (قصيدة قتامة البحر)

                       سأعبر ...حتى أرتقي قمم الخوف المشاكس

-         للشاعر دلالات في الوقت والوقت في كثير من الأحيان انتظار ومعاناة لفترة تجتاز النصف قرن و للزمن والتوقيت دور مهم في عملية الإفاقة والإرهاق الذهني لمجادلات عقيمة مع الآخر والآلام التى تصيبه عند الإصطدام بعقول يائسة ذات أفق محدود وإهلاك الأحلام الشخصية وتنكر الآخر له وعدم الإعتراف بالجميل ،هذا الصراع مع الآخر داخليا أو خارجيا يُخيِل له أنه يوقفه في منتصف طريق معلق ومبهم ولا تراجع فيه (قصيدة إفاقة)

-         تكرر في  ديوانه استخدام الخريف وهو فصل تساقط الأمنيات والأحلام رغم أنه يعود ويقنعك بوجود النور وسط معركة الظلام الروحي ليستخدم الربيع  في قصائد أخرى وربما في نفس القصيدة أما فصل الشتاء والصقيع وكأنها فترات الكمون واستعادة التوازن الروحي من خديعة الحياة أو القيد الذي لا يمنحه فرصة التغيير.

-         ركز على الأطفال فلم يعد لديهم أمان وحماية كما السابق نتاج الحروب  فتقسموا إلى قسمين :قسم أجبرته الحياة على الهجرة القصرية وربما الهجرة الغير شرعية فابتلع البحر أرواحهم وقذفهم جثثا وقسم يتمتع بأمان الوطن لا يزالون يمارسون براءتهم باعتيادية يغنون للبحر أغنية وهو ذاته البحر الذي يقذف بجثث الأطفال على سطحه

فيقول في قصيدته وهم الشاطيء:

تتوارى أجسادهم

بين تراتيل أشجار الصبار

وبين ثلاجة الموتى

في معرض التأبين والاحتجاجات

في صحن عهر الأمم

-         مثال آخر من نفس القصيدة:

في كل ثانية ..تراقب طفلةً

طائرا ..قتيلا.. فوق سطح البحر

-         وفي موضع آخر من نفس القصيدة:

تصب حكاياتهم

في عمق البحار

ليستريحوا قلسيلا

فتطفو فوق المياه

قصة بوحٍ لهم

-         ورغم التعتيم الاعلامي لقضايا الوطن أو القضايا العربية وهو الوطن الأكبر إلا  أن الأسرار ستنكشف

-         مثال من قصيدة وهم الشاطيء

حكايات الملح ستفشي أسرارا

أن مدينتنا تركض عارية

قرب آلام النفس بنوافذها المغلقة

-         لا زال  عنده بارقة أمل يصارعها هذا المتكأ الذهني المغموس بآليات الإنحدار مما يدور حوله من كوارث لا تطاق:

فيقول أيضا في قصيدة وهم الشاطيء

وأسعى لبقعة ضوءٍ...شاردةٍ ...تسكن عمق تفاصيلي

-         تطرق الشاعركثيرا للصوص الذين سرقوا كل شيء حتى الفرحة ، سرقوا شرف امتلاك الأرض الخصبة التى أنهكوها بالتبويرليستبدلوها بأبنية من الطوب الأحمر، سرقوا الثورة وسرقوا المنصات:

-         ولصوصا قد جاءوا من حصص الوقت

من أعراس الصمت

بأغنية تورق

في عشب يباب

في جوف الليل وقلب وطن

-         مثال أخر من قصيدة وهم الشاطيء:

وأنا أقف علي حافتها

من دون أحد من لصوص الأرض

بعدما سرقوا الوقت والحياة

ليتركوني علي موائد

لا أشتهيها

ولا أعرفها

تستنزف ما تبقي من عمري.

ومثال آخر من ثرثرة تفضي إلى الموت

-         بينما اللصوص وحدهم

من يرتقون سلالم الوقت الفاخرة

-         استخدم الأرملة بدلالات متعددة ليعبر بها عن مصر تارة فذكرها مرة أرملة وتارة أخرى انها أرملة النهر وأخرى الأرملة وهل الأرملة هي سيدة الولائم أم هي سيدة أخرى؟! تشبيه ينذرك بالخوف على ارضك لشاعرٍ يضج بالوطنية وكيف استطاع في قصيدته ثورة (ثورة 2011)أن يطلق صرخاته كاشفا اللثام عن التداعيات المتأتية من النيل من استقرار مصر والذي اهتزت له استقرار الدول المحيطة.. إنها من القصائد التى تستنكر السكوت الذي قد يودي بنا نحو الهلاك لينهش الأجساد والأرواح ..لا أحد يحرس هذه الثورة الذي توقع لها الاختفاء بدلالات الغروب .. القيد والاضطراب تغلغل في القصيدة ..عبر عنه بصور مختلفة:

-         ثورة ثورة

قطارها بين أوردة البيوت ..جائع

وعلى أرضٍ لا تفور في صحوة المشتهى

تقف على أجنحة الطيور

على أغصانها الخريفية..مقيدة

وفي موضع آخر استخدم الحمام الرمز الكبير للسلام مقيدا ايضا:

-         ثورة ثورة

واقفة خلف الأغنيات

لا تطرق أجراس الطلوع

لا تعيد إلى الحمام

رسالة الحياة

أو تعانق فضاءات السؤال

في أعين الأرملة

ومن شدة ألم الشاعر حول مدارات الثورة  التى لم يألفها هذا الجيل وتخبطاته حول المصير القادم رغم مرور العامين إلا أنه أرمز هذه المعاناة  إلى أانتقالها للطيور  التى  تعبت لتعبه وتلبست ألمه .. يبحث عن سترة للنجاة بكل يقين لأن تلك الثورة من وجهة نظره لم تكن تستند على شيء ولم تتلق الحماية التى تكفي لتعبر إلى بر الأمان فماتت  ((ثورة ثورة ..ولدت دون عائل..ماتت على يابسات الأرصفة))

-         بعض الرموز التى اتخذها وكررها  كانت (الطير والطيور )وهي دلالات قوية نحو البحث عن الانطلاق والحرية والتحليق البعيد ودلالات أخرى للغضب:

((ويجيء الطوفان وصيحات الطير الأسود))

 لكن  ارتباطه  العميق بالبحر جعله يستخدم رمزية النورس  بصورة الجمع (نوارس) في قصيدة اشتياق فقط..وكأن الاشتياق للمحبوبة يليق بها التمرد على الأوضاع الساكنة ليتحول إلى جموع من النوارس الباحثة عن رزقها من ذاكرة مليئة بالحب  وصنع صورة مركبة عجيبة لأتساءل هل  للغياب حليب؟!

-         في قصيدة امرأة الاستثناء عبر عنها كفرع لا يثمر إلا التين والتفاح ولتلك الثمرات دلالات قرآنية فأقسم الله بالتين والزيتون في سورة التين وجاء ذكر التفاح ضمنيا في قصة الخلق كشجرة محرمة في الجنة أخرجت سيدنا آدم منها (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ) فهل كانت إمرأة الاستثناء لا تثمر إلا  الفاكهة التى  يبحث عنها العطشى للارتواء؟!

-         في قصيدة أرملة النهر تعالت أصوات أسئلته لأتوقف عند الصورة التالية:

 والأرض تمتد عبر ذاكرة

أرهقتها مضايقة النمل

حين يسير علي طول

أسوار روحي

يبعثر ترتيب فوضي لها

في ضواحي نائية

والتى وظف فيها النمل الذي يسير على أسوار الروح مضايقا ذاكرته  المزدحمة بالأفكار بعكس ما استخدمه غيره من الشعراء مثل عبد الوهاب البياتي الذي قال:

يا من رأى أحفاد عدنان

على خشب الصليب مسمرين

النمل يأكل لحمهم

وكذلك الشاعر أدونيس  الذي تساءل

لمن النملة تعطي دروسها؟

-         سجل معاناته كشاعر وانسان في قصيدة ثرثرة لن تفضي إلى موت وصعوبة الاحساس بالوصول إلى حافة الاستسلام حيث صورها ببراعة:

وربما كان الاستسلام

للنزول من حافة السماء

إلي المجهول.

-         لكنه ينتظر دوما والوقت بطيء في الانتظار حين يتحول إلى شبحٍ مجهول:

والمسافة يرقبها الوقت

يوقف زمنها لحظة

ربما تجيء عاصفة

من كوكب

إنساني آخر

تقذف بي إلي السماء

وقت أن تطلع من عند الله.

لكنه يظل متشبثا وبقوة بالأمل ،هذا الأمل في حفيده قد يتجدد ويملؤه النور رغم مجهولية المستقبل وريبة تفاصيله.. فيعاود حنينه للأرض التى نشأ فيها وينشد من ذكرياته بصيصا للخروج فتتجلى صورة أمه الحنون  التى ماتت:

وقت خروجها من يدي أمي ...التي ماتت

بعدما تركت لي وصيتها

 أن أصلي عليها صلاة الجنازة

وأدفنها بيدي المحمومتين

 وأمنحها قبلة فوق جبينها

قبل أن أغادر مرقدها.

متاهة الحياة  وقضايا الأمة يشكلها الشاعر تشكيلا حميميا بصيغة العائلة فيعاود التحليق في السماء بعيدا عن مخاطر البشر واللصوص الذين لم يفوتوا فرصة إلا واستثمروها ليتركوا الوطن بلا سترة نجاة حتى الأم التى ترضع طفلها:

جاء اللص

ليسرق سترة أم

تحمي بها ثديها

وقت أن كانت تحلبه

لطفلها الرضيع

المحموم من شدة الجوع

حينها تذكر ما يحدث بما صنعه الأخوة بيوسف عليه السلام فلم تمنعهم الغيرة والحقد من أن يلقوه في غيابة الجب وكأنهم لا يمتلكون نفس الدم الذي جمعهم وكأنهم نسوا خالقهم وتناسوا قدرته على الانتقام منهم بطوفان يغرق كل شيء..

-         يعاود في القصيدة استخدامات أحوال الطبيعة في تباين مختلف وكيف يستطيع الصقيع أن يتواجد في الربيع الممطر وكأنه يتحدث عن الصقيع النفسي الداخلي في ربيع الثورات المتتالية والتى ساهمت في تواجد كل أنواع اللصوص حتى لصوص البهجة والعمر المتبقي ولقمة العيش التى ماعاد يستسيغها الشاعر:

ولا تزال السماء التي أقف علي حافتها

والرعد والعواصف

 يرسلان صيحاتهما لي

والصقيع في ربيعنا الممطر

يتوغل في جسدي

من دون خيط واحد

من الشمس التي فرت

ولم تستطع المواجهة

كي يمنحني

 بعضا من شتات ذاكرتي.

 

 

 

·        البيئة الشعرية في القصائد

 لقد أثرت بيئة الكاتب عليه تأثيرا شديدا فمن الأرض تنبت أشعاره وإلى البحر تؤول..تتماهى قصائده ومحاصيل الأرض، تتوقد شمس حروفه وتتأرجح ما بين الألم الصامت والبوح المتفجر حيث الملاذ ،يطلق صرخات متتالية لعل البشر يدركون خطورة ما أباح به..تأثر بالقرآن الكريم تأثرا واضحا ملموسا لكنه بحرفية شديدة تناص معه في قصائد محدودة حيث مرجعيته  : قصص الأنبياء سيدنا (نوح،موسى،يونس،يوسف،وسليمان) عليهم السلام وفاكهة القرآن (التين والتفاح )والطير.

الأسلوب:

يتميز أسلوب الشاعر المخضرم عمارة إبراهيم بالرمزية الغنية بالبوح وكيف ذلك ..فأشبهها بالكود البرمجي لتطبيقات إنسانية  لا يفهمها إلا دارسي النُظم والمعلومات ليحرك الصامت فينا ..شفرة من شفرات التواصل لا يمتهنها إلا من أدرك وفهم وعرف وتجاوز بخبراته الكثير من متاهات ودوامات الحياة .

آفاق الشاعر تجدها دوما متنقلة ما بين حدود البحر وحدود النهر وكأن الماء وروحه لا ينفصلان..يغتسل بالماء قبل البوح وبعده..يتناول كل القضايا كمدارات كبيرة لعنصرالحياة حتى يصل بنا إلى النواة (الذات) ثم يخلع عن نفسه تلك المدارات الذاتية ليتلبس مدارات الوطن ليدور في فلكها ويئن من الخطوب مدعيا ثرثرته لكنه بوح مؤلم .

متأثر بالأجواء المحيطة به:بالشمس والقمر،بالبحر والنهر،بالظل والضوء،السماء والأرض،الوقت والانتظار، الماضي والذكريات ، النهار والليل، الصقيع والفوران وكأنك معه في حالة طقس يومي تسجل صعودا وهبوطا في درجة التفاعل النفسي والحسي وطقس القلب في فصوله المختلفة ..دوما هناك حياة حتى في عمق الاحساس بالخيبة وكلمات الخلاص والموت تستنبط الحياة حتى وإن كانت افتراضية تحفها المثاليات ،الأبيات تبرق مع مشاعره وترعد ،تتحرك وتتألم ..لا يمكن أن تخطيء  نشاط المشاعر الفائرة حينا والمنتظرة حينا آخر.

- تجد الألوان في بعض لوحاته المرسومة  مثلا كالشمس في لونها البرتقالي على غير عادة رؤية الشمس بلونها الأصفر المعتاد أو لونها الأحمر ساعة المغيب وكأنها ثمرة الحقل في أرضه ،يختار لونا هجينا(الأصفر والأحمر) وكذا الأخضر الذي يراه صريحا واضحا  لا يخاتل رغم أنه لون هجين أيضا (الأصفر والأزرق ).

الصور والأخيلة:

لا تجد صفحة من صفحات ديوان عابر ينتظر وإلا تعج بالصور والأخيلة التى تتوقف عندها موقف المتأمل حيث ألبس  الشاعر الغير المحسوس لباس المحسوس ،تميل صوره نحو الحركة الأفقية والرأسية ،استعاراته معظمها مركبة أو متراكبة برمزية ممكن تفكيكها وفهمها وبعيد كثيرا عن التشبيهات

(قصيدة وهم الشاطيء)

-         أن أفاعي في عمق الكون تبيع جنازات النهار

            بينما تنثر عقارب الوقت ملفاتها الضائعة

            عن مقايضة الموت وقت عبور الحدود

-         أن الموت يفرش موائده بطعم القصائد المعطلة

            تتوارى أجسادهم الساخنة بين تراتيل الصبار

            بين الزمن الواقف عند حدود الوقت

            حتى يرسو داخل شريان الصخر الساكن

-         يأتون بغواية قمر يثقب باب سماء مغلقة

            قرب النهر لتسكنني

           وأنا مزدحم من فوضى البحر

قصيدة ثورة

-         تطرق أجراس الطلوع

            نستعرض الأعطاب في جدران الخطب

            تراقب ظلها في شاحنات الغروب

-         هنا منصات تبيع عواصف الخرائب لمستثمري الحكمة البائدة

-         سأدخل من نبض خوفي

أقطّر في عروقها نسمة باقية

 ينبت فيها شروق النجاة

-         أصعد فوق الفنارات ألطم خد العواصف

-         الوهم ممسك بتلاليب الروح

وعصاي أزيح بها ظلمة الضوء

-         الآن تعوم على جليد الاستواء

وأنا في قلب الصحراء أراقب فوراني

-         الأريكة حين تنام على أرصفة

تراقب نفقا موازيا يمتد إلى طرقة الباب

-         أنا سيد العارفين

أرسم غيمتي فوق أكف الله

أزف ضوئي في حضرة النابهين

وانحني عند لوزة الروح

-         من قصيدة نص للخاتمة:

يمنحني الموج صعودا

من خلف سحابة

طردوها من جسد النار

حين الرعد يلملم صمته

من نافذة الحلم

وفوق سعال الريح

-         هنا المسافات بين الحدود

سنابلها يابسة

وشمسي لها

ترتدي بوحها الصاعد

يشتم دفئا ..يساوم ليلا

أتى من منافذ تشيع الوهن

-         الوهم ممسك بتلابيب الروح

وعصاي أزيح بها ظلمة الضوء

تصافح هبة العواصف

من دون كلل

-         من قصيدة نص للخاتمة:

من خلف سحابة

طردوها من جسد النار

حين الرعد يلملم صمته

من نا فذة الحلم وفوق سعال الريح

-         أو أن النخل الهارب من شرنقة العطش

مال على حكاياتنا الفائرة كالشمس

 

 

المدخل العقلاني: وهو يدهشك بتناصه مع القرآن في مواضع محددة بحرفية :

 (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ) آية 10سورة يوسف

-         تشاهد فيلما عن إخوة يوسف

حين رموه في هوة بئر لا يرتجف

وفي قصيدة ثمرة تناص مع الآية( وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ)أية 35 سورة البقرة

ليقول:أيها العابرون خلف ظل

       لشجرة الغواية

لجأ إلى الطير في تناصه مع القرآن:

وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ﴿١٦ النمل﴾

ووظفها بمنطقية في قصيدة ملاذ

قالت الطيراذهب لسليمان

علكم تنظرون رسائلَ

تعيدكم  إلى سيرتكم الأولى

ثم تحدث عن سيدنا موسى وخرق السفينة تناصا  آخر مع القرآن

(فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا) سورة الكهف

فقال :إن البشر إن طالت سمواتهم قمحي

وأفردوا شراعهم في دمي

لن يأتي نبي بعدي

يخرق السفينة

ضلت خلاصها

تبصر نجاتكم

وتبصرني

تناص آخر من القرآن في نفس القصيدة ملاذ:

قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ﴿٤٣ هود﴾

فقال الشاعر:

قال: سأذهب فوق جبلٍ يعصمني

من بلدٍ

طال زيفه

لم يرتق حلمه

في قصيدة نص للخاتمة

{ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } (سورة الحجر 21)،

وأوفوا الكيل والميزان بالقسط " سورة الأنعام

(ولما جهزهم  بجهازهم قال ائتونى بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أنى أوفى الكيل وأنا خير المنزلين) سورة يوسف

فقال:

أن النيل يبعثر خبزا

من بين أصابع يوسف

حين يقيم حدود الله

في الكيل وفي الميزان

وتناص آخر :

(وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ) سورة يوسف اية 25

فقال: أو أن إمرأة

كانت تشعل جمرا

فتقد قميصا من دبره

المدخل السلوكي:

أسئلة الشاعر لم تكن كثيرة في ديوانه  عابر ينتظر لكنها غالبا ما تكون لاستنكار الأوضاع أو الحوادث

1.     كيف أكون على ذات أبواب معركة شاغلتني كثيرا ولم أشته القفز

فوق منصات البقاء؟

2.     فهل أنتقي حريتي من أضلع المفسدين وأنزع من حد المنافي شفرة الأقفال ؟

 أسئلة وجدانية لا تجد لها إجابة لكن بالتأكيد تلفت النظر نحو إحساس الشاعر بنفسه ومكانته  من وجهة نظره الواثقة :

3.     ما الذي أسرجني على صهوة الغوص في تفاسيري؟

يستنكر الخوف والضعف وغياب الأمل  الذي يتشبث به دوما

4.     هل نرتقي قمم الخوف وقت انفلات الطمأنينة؟

5.     وهل أطفو علي أسطح النهر أستنشق النسمات في موجة ربما كانت هي المأوي

6.     متى يلتقطني الضوء وأنا في عمق الصخب والانكسار؟

أسئلة وجودية قد تبدو للرائي أنها أسئلة هينة استخدم فيها الأرض والشمس حدود عالمه الذي يدور فيه:

7.     وهل تتسع الأرض في فراغها اليابس؟ تنال من خريفها فجيعة الانتظار

8.     وهل تمكث الشمس  خلف دخان المنافذ بضع سنين ولا تقدر على الاشتعال

 

خاتمة :

إن تلك الدراسة مستقطعة  لأن تجربة الشاعر عمارة إبراهيم تجربة كبيرة  لا تستوعبها دراسة نقدية واحدة وله حس خاص يحتاج التعددية في الرؤى فهي تجربة مليئة بالمشاعر المتقنة فنيًّا وصورا وبلاغة.

وبعد قراءات متعددة للشعراء الحداثيين وجدته لم يقارب أحدا في تجربته من حيث التفصيل والصور لأنها له خصوصية في التركيب الفني للقصيدة ،وكذلك تركيب الصورة الشعرية مثل سيمفونية عالمية بأوركسترا المفردات وموسيقى تعلو وتخبت تصنع نغما لا يمكن إلا أن ينتشيك.

 

 

 

 

تعليقات

مشاركات شائعة

جماليات الجرح وتحولات الذات: دراسة ذرائعية في أعمال د. صباح عنوز الشعرية الكاملة بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي

بين البنية السردية والتشكّل القِيَمي: قراءة ذرائعية في رواية "مشاهد" للكاتب المصري شريف التلاوي بقلم الناقدة الدكتورة عبير خالد يحيي

الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية لديوان «رقصات الصمت تحت جنح الظلام» لـلشاعر المغربي سعيد محتال بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

تجليات أدب الخيال العلمي في المجموعة القصصية / تشابك سرّي/ للقاصّة المصرية غادة سيد دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم د. عبير خالد يحيي

المشاركات النقدية الذرائعية

كبوة الريح/دراسة نقدية ذرائعية

مؤلف عبد الرحمن الصوفي

الشعر الحر وتمثّلات الدعوة لأغراض شعرية جديدة - دراسة ذرائعية مستقطعة في قصائد للشاعر العراقي وليد جاسم الزبيدي من ديوان ( مرايا الورد) بقلم الناقدة الذرائعية السورية د. عبيرخالد يحيي

جرأة التجريب ولعبة الميتاسرد في رواية ( لو لم أعشقها) للأديب المسرجي والروائي المصري الكبير السيد حافظ - دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة السورية الدكتورة عبير خالد يحيي

قداسة المكان و تحليق الذّات الملتهبة

التوازي في الدلالات السردية - دراسة ذرائعية باستراتيجية الاسترجاع في رواية ( بغداد .. وقد انتصف الليل فيها) للأديبة التونسية حياة الرايس - بقلم الناقدة الذرائعية السورية د. عبير خالد يحيي

قصيدة ترميم الروح

قصيدة النثر العربية المعاصرة

أدب الغزو من منظور ذرائعي

تعبير رؤية