رد الأديب السوري عماد الشيخ حسن على مقال الأديبة العراقية شهد الراوي / رسالة من بلاد الرافدين إلى بلاد الشام
رد الأديب السوري عماد الشيخ حسن على مقال الأديبة العراقية شهد الراوي / رسالة من بلاد الرافدين إلى بلاد الشام
..رسالة من بلاد الرافدين إلى بلاد الشام.
أعلم ان معظمكم يعرفها، لكني أحب أن أعيد قراءتها كثيراً.
الكاتبة العراقية الجميلة #شهد_الراوي عن دمشق... كتبت تقول ..
أنا لا أسأل ..
أنا فقط أحاول أن أسأل
هل لازالَ الصيف عندكم ناعماً ..!
هل لازلتم تذهبون الى الجامعة بكل تلك الخفة العشرينية ؟
وهل لازالت دمشق تتمطى صباحاً ،تنظف وجهها بصوت فيروز عند الشرفات وتتعطر بقهوتكم السادة ..!
أيها السادة ..
كيف أحوال بناتكم ؟ الرشيقات الباهيات الجميلات..
هل لا زلتم تشترون العطور المعبأة ؟
أتعلم أيها العالم أن عطورهم اللا مركزة لازالت عالقة في أنفاسي ؟
أتعلم أنهم لم يكونوا من مريدي الماركات العالمية ،
كانوا يلبسون الجينز مع أي قميص ،أي قميص فيصبح أنيقاً مبهراً وثميناً ...
أتعلم انهم كانوا يمررون الغزل بين شوارعهم على شكل مناديل بيضاء محشوة بالياسمين؟
هل لازلتم تتجمعون في المدينة الجامعية ؟
تزدحمون حول المواهب الجديدة ، تصفقون للشعر وترقصون مع العود ...
كيف لي أن أشرح لهذا العالم ماذا يعني أنك تتمشى في دمشق ؟
أن تكون صداقات لا تضجر فيها أبداً
أن تطهر نظراتك بحجاباتهم البيض المكوية جيداً
وأن تتعلم كيف تقدم القهوة مع الفواكه مع الأركيلة في نفس اللحظة بدون أن تشعر انك بحاجة الى زيارة النعيم .. !
أنا أسأل صحون اللوز المثلجة وبقايا الجزر المغسول جيداً
كيف يمكن للعادة الأخاذة أن تموت ؟
أيعلم هذا العالم كيف أسس العشب هناك حضارة أوكسجين كاملة ..؟
و هل يدري أنكم كُنتُم تجمعون أموالكم الخفيفة التي لا تأتي بسهولة كي تحتفلوا بعيد ميلاد أحدكم...؟!
هل لازالت احتفالاتكم معلقة بالهواء؟
تنظر إليكم باستغراب شديد
هل لازالت الكافتريات الطلابية تعج بأوراقكم؟
بمسطرات الهندسة وقصص الحب التي يعلم بيها الجميع ..
الحب في دمشق لم يكن سراً أبدا ، لم يكن عيباً ولا حراماً
كان واضحاً ومعلناً كابتسامة سائق سرفيس ...
أنا لا أسأل
أنا فقط أحاول أن أسأل
ماذا عن السابعة صباحاً والثانية عشرة ليلا ؟
كيف حال الشعلان والمزة، باب توما وبرزا، جرمانا،جديدة عرطوز والمهاجرين ، السيدة زينب ،الميدان والحميدية ؟
كيف حال شوارعكم التي تنطق كلما تمشي عليها جملة
" على رمشي والله بتمشي" ؟
لماذا رددتم كثيرا كلمة "تقبرني" حتى قبركم الجميع ؟
دفن ذاكرة مدينة وصار يعاملكم على إِنَّكُم عابرون ..
كيف نسى الجميع أن الشام كانت بيتاً آمناً لكل من تهدم داره ..!
كيف صمت قاسيون أمام وجوهكم التي نادته طويلاً..؟
افتحوا أبواب بيوتكم أيها السوريون ..
افتحوها حتى لو كانت صغيرة وقديمة أو خيمة في بلاد بعيدة ..
علموا العالم كيف تكون النظافة الحقيقية والترتيب العالي والتهذيب الجم ..
أنا لا أسأل
أنا فقط أحاول أن أسأل..
كيف تعاملت أكياس القضامة الملونة مع حروبكم ؟
هل تعودت على مشاهدة المرارة
أم تعودت أن تقلب ضحكاتكم المنسية ، أحلامكم ، خططكم، وقع اقدامكم السريعة قبل أن تنام
تبتسم وتغفى في دكانها المهجور...
تسأل دكة منسية أمام كلية الآداب جامعة دمشق :
أنتم تربيتي أيها الجيل الجميل
كيف سمحتم لكل هذا أن يحدث ؟
ماذنب القضامة تبكي ؟
وما ذنب أوراق مكتبة الأنوار تصبح في ظلمة
"أن لا يقرأها أحد.."؟!
من العراق الذي احببتموه كثيراً
نرسل لكم تحية نقول فيها..
"نحن لا نتذكركم عندما تحدث الأهوال العظيمة ويكتب عنها الجميع..
نحن نكتب لكم كل يوم
حتى في هذا اليوم العادي جداً اخباره العاجلة مألوفة وباردة
لكنه سيظل يوماً بائساً اخر يضاف الى لائحة الايام التي نشتاقكم فيها كثيراً.."
نحن نحبكم دائماً
كونوا بخير.
~~~~
جواب الرسالة من ابن الشام إلى ابنة الرافدين:
أما الصيف فلازال يحلم بجميع الأحباب، يتعاطى مع كل الأذواق، يتحلى بسماع كل اللهجات، شآم يا سيدتي مازلت طبق سلطة الفاكهة في صيفها فيجمع الثمار العربية ، وقل ما تمري بمنتزهٍ على ضفتي بردى، إلا وترين فيه الطاولات، وكأنها الوطن العربي، كل طاولة تمثل دولة عربية.
نعم ما زال عجائزنا يمرحون بروح الشباب، نحن في دمشق، تتوقف ساعة الزمن عندنا عند العشرينيات، ومن يهرم كثيراً يصل للثلاثين، ومازلنا نشرب القهوة، مع المحبوبة العجوز على شرفة المنزل، وأُصُصُ الفل بين شتلات الزرع المنزلية، من ورد جوري ، ونبتة الخبيزة التي تتعدد ألوانها، وأوراق نبتة لسان الحماة، ( نبتة منزلية أوراقها سيفية الشكل ) ورأس الشوك، كل تلك الصباحيات وفيروز تغني ( راجعين يا هوى ) ، وما زالت الأرجوحة على الشرفات تلاعب ذكريات الأحباب، أيام الخطبة، وكيف العاشق يلاحق رائحة حبيبته، و(جوليته)، ترمي له مناديلها التي تحمل طبعة شفاهها الملونة، ما زلنا نحب الحب، ومازلنا عجائز مراهقين.
أما بناتنا، فحالهن على حاله؛ تجاهد الفتاة لتبقى أجمل البنات، سارقة لب محبوبها، ومازلنا نصنع عطورنا بأيدينا، وفي محلاتنا التجارية، تجدين فيها العبوات المعدنية، والدوارق منتشرة على الأرفف تحمل أساسات العطور، من زيوتٍ وخلاصة عطر الورود، فلا يكاد المرء يمر من قرب هكذا دكان، حتى يتنشق باقة من شذا العطر من عصائر الزمان، وكأننا حبسنا باريس كلها في زجاجة، ورميناها في قعر بئر المقدرة على الإبداع والعطاء..
وما زالت الثياب كما هو عهدها، نحن لا نلحق إلا مهارات الحائكين عندنا، ونجمع الألوان على بعضها لتمتزج بعضها ببعض مشكلة لوحة من القماش، ونكتفي بقول الجدات، ( القالب، غالب )، فتبتسم البُنية راضية بأنها هي الجميلة التي تعطي للثياب رونقها وجمالها.
نعم نحن نصفق متحلقون حول شاعرٍ مغمور، يلقي كلمات الغزل، همه أن تصل لتلك المختبئة بين الجموع، يسترسل في بث مشاعره، ناسياً القافية، واللحن الموسيقي للشعر, وأحياناً كثيرة، كل ما يريديه أن يُرسل مشاعر الحب الذي يؤمن به للصبية التي سحرت لبه، ويعلم أنها تكاد توجه النظر إليه بغير اهتمام، خشية أن يلاحظ أحد ما عليها، وبعد، فض اللقاء، يسرع العاشقان، ليبوحا بأسرارهما عن مشاعرهما، وهيامهما ويتفاخران.
وعلى بساط السيران ( النزهة في الطبيعة ) ذوات الحجاب الأبيض، يصفقن، والصبايا يرقصن، والغناء مشترك من كل الحناجر يصدح.. ( بين سكابا يا دموع العين، و وأحدث الأغاني الراقصة المعاصرة )؛ والرجال تجدينهم ينحنون فوق نار الجمر يلوحون فوقها بأيدهم حاملون بقطعة من الورق المقوى القاسي، لتتوهج حرارة الجمر المشتعل، وأدخنة اللحم المشوي تحلق في فضاء السعادة، والهناء الذي لا بد أن يعيشه الدمشقيون، والنساء يفرمن البقدونس للتبولة، والخيار والبندورة للسلطات.. ولا يخلو هذا المنظر أنه في ركن أخر أن تجدي رجلين يلعبان طاولة النرد، والضحكات تعلو مترافقة مع سب الحظ ( بين شيش بيش ـ ودو يك ). وسيدات كبيرات يلعبن ( البرسيس )؛ و في هذا المشهد، لا بد من سماع كركرة ماء النرجيلة.
لم يصمت قاسيون يا سيدتي، ولكنه في حالة دهشة، كيف كان رد الجميع على محبته لهم، كيف نسوا أن أبناءه مازلوا كما يعهدهم الجميع، ومازال أبناءه دمشق يجمعون ما في جيوبهم، ليقيموا السهرة الجامعة للمحبة، والرقص، والسعادة، بحجج أعياد الميلاد، وفرحة الخطبة، وحبيبان يتفقان لإقامة سهرة تجمع بين صبية وشاب لتسهيل لقاءهما، نعم الحب في دمشق ليس سراً، وأن تحفظ أصحابه على سريته، فأن أعينهم تفضحهم وهي تلاحق بعضها.
ومازالت تستيقظ دمشق قبل أن تنام، ولا تنام إلا بعد أن تستيقظ، فترين حي الميدان مناوب ليلة في غفارة ليمر الجائعون ليلاً، وساحة القصور تنام بعد أن تستيقظ الشمس؛ وابشري فأبواب الدمشقيين مفتوحة لكل من يأتيها، أو يمر بجانبها، فلا بد أن يشم رائحة النظافة فيها، وترتيب
أثاثها، ومراتبها، التي تتدلى عنها الملاءات البيضاء والملونة، وأبواب دمشق لا تُغلق، ومن ( أرض الديار ) في البيوت التي شاخت، شجيرة الياسمين تبتسم لمن يسترق نظرة إليها، وشجرة الكباد تلوح بأغصانها لمن يتمتع برؤية اللون الأصفر النقي، وفي بداية الربيع ترين شجرة الأكي دنيا ( مشمش هندي ) تتدلى عناقيدها داخل وخارج سور الدار، بقطوف دانية لكل من يشتهي منها بعض الثمار، وتبقى شتلات الورود الدمشقية من جوري، وبلدي، وشامي، وبكل أطياف ألوانها منتشرة في صفائح معدنية صدئة منها وحديثة، وفي الشوارع ترين شُجيرات الياسمين تحمل أزهارها، ناشرة عبقها كما الصبية التي رشت رذاذ العطر قبل خروجها لتتمشى مساء كل يوم، وهذا الياسمين مباح للجميع، فكل من يمر بشُجيِّرة منه، يقطف بعض أزهارها، ويضمها في يده ليهديها لمحب، أو عزيز.
أخيراً يا سيدتي، أقول لك:
ما زال سوق البزورية، يستقبل زواره منذ مطلع الفجر، وتفترش الشارع ( البسطات ) والألوان البديعة، من السكاكر، والبهارات، والزيوت، والمشمش المجفف، والقمر الدين، ومازال في سوق الحميدية، زبادي كشك الفقراء، المزينة بالكريمة واللوز، وبرشٌ من الفستق الحلبي، والمصنوعة من أجود أنواع الحليب الآتي من غوطتها، ومازال القيمع العربي، يُدق في جرادل محاطة بالجليد، ويعجن مع الفستق الحلبي، ، ومازال أبا اسماعيل يصطحب أم اسماعيل ذات السبعين عاماً ليطعمها من بوظة بكداش، كما فعلها أيام الخطبة عندما كان يتفق سراً معها على اللقاء صدفة بسوق الحرير ( أمام أمها وعمتها ) اللتان اصطحباها لشراء جهاز، العرس... ولا تنسي البزر، والقضامة، والمكسرات المتنوعة في محامص حي الأمين.
وأما نحن يا سيدتي، فشوقنا لكم يزداد يوماً بعد يوم، بعد أن هَجَرنا وجودكم بيننا؛ لقد كان جزءاً من حياتنا اليومية، أن يمر بجانبنا عراقي، أو سوداني، أو لبناني، أو مصري، أو أردني، أو من أخوتنا في بلاد الخليج...
نحن في سوريا عامة يا سيدتي، وفي دمشق خاصة، بشر، نؤمن بأن الله خلق الحب، قبل أن يخلق الإنسان، ونحن نؤمن بأن الله جميل يحب الجمال، ولهذا نُقولب كل شيء في قوالب الجمال.
ومن دمشق الشام، تحية بحجم قلب دمشق الكبير لبغداد ، وعمان، وبيروت، والقدس، والقاهرة، ولكل بلد عربي سواء أحبنا أم اعتكف عن ذلك...
محبتي للجميع
عماد الشيخ حسن.
تعليقات
إرسال تعليق