استراتيجية البناء الحواري-المشهدي في رواية : (فكان من الناجين)* للروائي حسين عبد الخضر**
قراءة : عبد الكريم عيسى - العراق
تعني رواية (فكان من الناجين) للروائي(حسين عبد الخضر)في بنياتها السردية بدواخل الشخصيات الاجتماعية – ثقافية - النفسية والسياسية و الفلسفية وان تفاوتت في الامتلاء و تكثيف المعلومات .وما يكشفه ذلك من عرض مدخلاتها ووجهات نظرها وتعدد اصواتها برؤية انتقادية تحاورية لافرازات الواقع العراقي لفترة ما بعد التغيير ,اي ما بعد عام 2003م و شتى تداعياتها . ويرافق ذلك تماسكا في مبناها الحكائي كمواد خام مستثمرة بوعي روائي مثقف ,وتماسكا ,ايضا, في المبنى السردي وسببية سير احداثه وتطورها بطريقة الزمن الدرامي التصاعدي .كما تجري الاحداث على نحو مخطط له بعناية .وفي العرض الاولي لمفتتح الرواية ,ينجح السارد في تقديم المعلومات الضرورية للشخصيات, سيما, الرئيسية منها وتصوير البيئة التي تتفاعل فيها الاحداث. اضافة الى ذلك, ينمو الحدث لديه بتمرحل متأنٍّ ابتداء من المقدمات نحو النتائج, مظهرا اسباب الازمة ,اذ تصل العقدة لديه الى مستويات موفقة من الاختزال و التكثيف و التوتر وما لها من اثر فاعل في اشراك القارئ واستفزاز دائرة التلقي .ذلك يفضي بأسلوب رشيق الى الانتقال للحدث ويخلو من التبذير اللغوي. فجاءت بنياته السردية متناسبة ومتناسقة دون الوقوع بالإرباك .
وعلى وجه العموم ,تتصدى الثيمة الرئيسة لرواية (فكان من الناجين) الى مسببات تفشي ظاهرة الالحاد سيما بين فئة الشباب , بعد عام التغيير والتحرر من سطوة الدكتاتورية في العراق .او بمعنى أدق , أنها تتعرض الى ظهور الانسان اللاديني, المؤمن بوجود الله غير انه يتقاطع في ايمانه مع الاديان التي تسببت في التفريق بين البشر واندلاع الحروب والقتل وسرقة المال العام وتشكيل امبراطوريات مالية باسم الدين والمذاهب . فتفشي هكذا ظاهرة هو ردة فعل على التسلكات الدينية المؤدلجة ودورها في تكريس السياسات الفاشلة والتي انحرفت من اصول المنطلقات التي ارتكزت عليها . وعلى الرغم من سمة التطرف للمجتمع العراقي في الكثير من الاشياء ,بيد انه وسطيا في التعاطي مع الدين. لذا فالارتدادات العكسية لفئات الشباب تحديدا , فضلا عن العديد من الفئات العمرية الاخرى ,على وجه العموم, هي الدفاع عن سلطة الدولة المفقودة بالضد من السلطات النفعية المستقوية بالاقنعة الدينية.
وتدور معظم احداث هذه الرواية حول الشخصية الرئيسية -الشاب (نعيم)- الذي عاش حياة اسرية ملؤها الكآبة .فكان والده قاسيا وفضا في تعامله معه ومع أمه .وما انفك والده يعيش قسوة تأنيب الضمير وكوابيس ذاكرة انتمائه السياسي السابق ,كأداة سيئة السلوك بيد النظام المستبد قبل عام 2003م. وغالبا ما كان يوبخ نفسه على افعاله المشينة بإيذاء الناس الى حد عدم المبالاة في زجهم في السجون لتلك الحقبة, و على تسلكاته الابتزازية الى حد انتهاك حرمة الاعراض ; فعلى سبيل المثال, يظهر ذلك في المونولوج الداخلي للصرخة الاحتجاجية لولده(نعيم) :
((اُفلِت بجرائمك فانت في بلدا منفلت من قبضة العالم ; كان يردد في نفسه احيانا عندما يرى او يسمع اباه يدعو الله ان يغفر له ويحشره مع الصالحين, ص3))
وبعد التغيير ,عام 2003م, فتح والد نعيم مجمعا تسويقيا وتفرغ للعمل التجاري لكن نفسه لم تطمئن على الرغم من حياته الثرية الجديدة وشعوره بوضع من التصالح مع الناس حين يستذكر ما تسبب به من الوان الاذى وانتهاكات اسرية ومجتمعية .وقد حاول اللجوء الى الدين للتكفير عن خطاياه الاجرامية وما اقترفته يديه من آثام لا تغتفر. فطالما اخذ يقضي معظم وقته في ممارسة سلوك التدين والاهتمام بالأخرة والاكثار من تلاوة القران وقراءة الادعية . مما جعل (نعيم) ,الذي عانى هو وأمه من السلوك القمعي والتسلطي والشرير المليء بالتنكيل والاذلال والقسوة المفرطة , ان يحتج على كمية الشر الموجود في العالم .فيقول :
اذا كان لهذا الكون من خالق ,فهل سيخدعه ابي ويدخل الجنة ؟,ص6)
ويتبعه في سؤال احتجاجي اخر:
( هل اصبح ابي مؤمنا في سجلات الله الآن ,ص6)
وبسبب العذاب النفسي والجسدي لقسوة نشأته الاولى الى مرحلة مراهقته , اخذ يعيش حياة عدمية وعبثية:( بالاشمئزاز من كونه موجودا في هذا العالم الفوضوي المضطرب ,الذي يجب ان لا يأتي اليه الانسان,ص7) .ومن الممكن ان نلاحظ هنا التوظيف النفسي لعقدة التخلص من الاب مجازيا كرمز للاستلاب وفرض السطوة والمصادرة التعسفية لحرية الابناء وسلب ارادتهم في صنع حياة متجددة ومتحررة من التبعية والاحقاد القارة في حواضن التأريخ.
ولم يستطع والد (نعيم) الصمود امام مذكراته الشنيعة فرى ان الموت هو الوسيلة الاخيرة للخلاص من عذاباته النفسية وجلده المستمر للذات. وعليه قرر الانتحار شانقا نفسه في المجمع التسويقي: (كان انتحار ابيه ردا حاسما على السؤال الذي شغله لسنوات ,رأى ان الامر يحمل رسالة شخصية له .لقد نَفذَ ابوه الحكم العادل على نفسه .......الى قوله: لا يمكن لاحد ان يفلت من قبضة العدالة الالهية ,ولا داعي للاستمرار في خداع الذات ,ص39)
وضمن المتن الحكائي لهذه الرواية ,يؤسس (منتظر)صديق (نعيم) صفحة لمجموعة على مواقع التواصل الاجتماعي مع اثنين من الشباب يعيشون في الخارج, وينظم اليهم فيما بعد(حارث و يوسف ونعيم) وثم تنظم (ندى) باسم (حنين) .وتتجه افكار النشر في هذه الصفحة الى انتقاد السلوك الديني الاستغلالي الزائف. وبسبب ضغوط ومأساة الحياة وقسوتها عليهم اختلطت جوانب من افكارهم مع رؤى اقرب الى الالحاد او القلق الوجودي والتشويش في متبنياتهم وما يشوبها من اضطراب فكري .فيقول منتظر في حوار مع (نعيم):-
((لست ملحدا تماما,ص8))
ومهما يكن من امر, فهم يركزون على نقد الظواهر الدينية وما تحمله من انسدادات فقهية واساليب ظلامية , تسلطية وقمعية ,وإفشاء للطائفية المقيتة والكراهية وتغييب انساق المحبة والرحمة والتسامح .
ويمكن معاينة ذلك في اعلان مجموعة (منتظر) عند تأسيس هذه الصفحة :
((نحن مجموعة من الشباب المنطلق نحو الحرية ، وراء ما تفرضه علينا الاديان من قيود تحد من افق حريتنا الفكرية وتؤطر سلوكنا بقيود الاخلاق البالية ندعوكم الى زيارة صفحتنا لنعمل سوية على تجاوز محنة الاديان التي لم نحصل منها على غير البؤس والكراهية,ص8))
وبالنتيجة .فالنفور من الدين لم يعد الحاديا بالقصديات اليقينية فحسب بل هو مواقف ثقافية وفكرية وانتقادية واتساع مدركات الشباب للتطور العلمي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. مما اتاح مساحة لتنامي التطلعات التنويرية وما تفرزه طروحات تحديث فلسفة الدين .
وتمنح ستراتيجية توظيف الحوار لهذه الرواية حيوية وأداءً موفقا جدا. اذ تتفاعل شخصيات هذا العمل داخل الاطار الدلالي لشبكة العلاقات السردية ثقافيا. وتشتغل اللغة هنا بتبادلية تأثيرية منتجة للعلاقات المنطوقة . ويمكن معاينة ذلك في المواضع التي جاءت بصيغة المشهد المسرحي وتحديدا في الحوار بين الضابط وشخصية (المسيح)التي أُسنِدَ القيام بدورها الى (نعيم ) :-
((الضابط : وما العيب في شريعة الملك .
المسيح : شريعة الملك تحفظ كرسي الملك , اما شريعة الله فتحفظ نظام العالم , ص 57))
فتعمل في المقتبس اعلاه وغيره من الحوارات العديدة الاخرى كرابط يجمع الشخصيات على مواضع الاتفاق والاختلاف . فأصبحت مجالا حيويا للمؤلف لكي يعبر عما يختلج في نفسه من افكار ومشاعر وهواجس ازاء واقع تختلط في الاوراق . وما يدعم ذلك في المقتبس لحوار بين شخصية الضابط وشخصية بطرس :
(( الضابط : سيد بطرس , التقرير الذي امامي مُوقَع من اعلى سلطة دينية في البلاد .
بطرس : اولئك الذين يقفون كالصخرة في فم النهر .
الضابط : نعم , هم اولئك الذين يقدسهم الناس وتتهمونهم انت باللصوص الكَذَبة , ص 59))
فيفتح التواصل الحواري بين الشخصيات مجالا واسعا لتبادل ما يدور في اذهانهم من مفاهيم فكرية وانسانية . ويمكن رصد ذلك , على سبيل المثال لا الحصر , في مقتبس الحوارات التالية :
(( بطرس : كل ما نملكه هنا زائل يا سيدي وليس ذي قيمة , الحقيقة وحدها باقية
الضابط : وقوانين المملكة لا تقود الى الحقيقة ؟ !
بطرس : قوانين المملكة تقود الى سلامة عرش الملك اما الحقيقة فهي نور يتوهج على لسان سيدي , ص 60 ))
فنجد التبادل الكلامي في المشهد المسرحي والحواري يسمح بتمرير وجهات نظر الشخصيات بجو درامي فاعل , تتحفز فيها الافعال وردود الافعال لبلوغ الغايات الاخبارية والإقناعيه والتواصلية و الحجاجية .
ونجح السارد والدرماتوج ( حسين عبد الخضر ) باستخدام كاميرته وحيوية مخياله القصصي لتحقيق لقطات مقربة لأداء الشخصيات , مسجلا حواراتهم وافعالهم وتدوين ذلك عبر الفن الروائي , مفعلا الملفوظ والمونولوج المروي لتعزيز تضمين افكار الشخصيات وما يجيش في صدورها من مشاعر وافكار ورؤى . فنلاحظ بوضوح تنشيطا لحركة السرد افقيا وعموديا وبكثافة زمنية , في مسرحة الاحداث وجعل الشخصيات تتحرك وتعمل امام جمهورها , وتهيئة الارضية السردية لإنبات ونمو بذور المَشاهد . وقد اشتغلت ستراتيجية " مسرح الرواية " بالمعنى (الباختني ) البوليفوني وليس "مسرحتها " في عرض اللحظات بطريقة درامية عالية الاداء . ومن خلال توظيف الكاتب للزمن الدرامي , يسلط الضوء على تتابع الحاضر وظهور اللحظة التي تحطم نفسها لصالح اللحظة المستقبلية .
فضلا عن ذلك , كان لاشتغال الية وجهات النظر وكرنفالية الاداء في الرواية له اثر في حركة الاحداث ومساراتها بتفاعل مع العرض الدرامي المشهدي لها , سيما , فيما تتميز به من احد وجوهها بانها ذات صيغة شخصية حيث يكون المجتمع فيها بمثابة خلفية للشخصية وما فيها من مواجهة بين الشخص وذاته والشخص والمجتمع مما يرفع من نسبة حضور التوتر . و الطريقة المباشرة لعرض هذه الرواية هي الايهام الكثير بالواقع ؛ وهذا يظهر بوضوح حينما تتحفز قوة الايمان بالله في عقل وبصيرة( نعيم ) في حواراته اثناء اداءه شخصية السيد المسيح في الفصل الثالث ازاء شخصية المحقق الملحد ( حارث ) على الرغم من اختلافه مع الظواهر الدينية الزائفة . ويمكن معاينة ذلك في الحوارات بين نعيم وحارث :
(( هل رأيت ماتوا ولم يستسلموا , لان الحقيقة تستحق ان نضحي من اجلها بحياتنا ! رد حارث.
نعم بحياتنا . فما قيمة الحياة عندما تُقهَر الحقيقة ؟ ! يتوجه (نعيم ) بخطابه الى الجمهور :
ليس لوجودكم قيمة ان لم تعتنقوا الحقيقة . الحقيقة هي ما يجعل وجودنا مبررا ........ الى قوله : ........ انهم يحولون العالم بإعمالهم الى جحيم , ثم يقولون لكم انظروا ما فعل الرب ! , ص 149))
وفي النهاية التي جاءت بأداء مهاري موفق جدا , يحقق الكاتب قفلة مؤثرة لنهاية مفتوحة التأويلات حينما (يَقتِلُ حارث) ( نعيم ) :
((صاح حارث : بإطلاقة واحد قَتَلتُ ابن الرب , لم تستطع اي قوة في العالم ان تمنعها من اختراق راسه , ص 150 )) ولاذ بالفرار .
(( هرع عدد كبير من الجمهور الى جثة نعيم وامه تراقب من ورائهم جثة ولدها , حملوه على اكتافهم وخرجوا به من المسرح , وخط طويل من الناس يتعاظم ورائهم .
على النهر نام الطائر الصغير على احد الاسلاك التي تمر فوق الجسر بانتظار نهار اخر يجرب فيه حظه , ص 150 ))
فانتقال الجمهور الواسع خلف جثة نعيم من المكان المغلق – مكان منصة وقاعة العرض – الى المكان المفتوح على الجسر وعلى النهر له ابعاد دلالية وتأويلية , منها انه جعل مؤشر البوصلة يتجه نحو انتصار الايمان الحقيقي ازاء المشوش والديني الحقيقي ازاء اللاديني الزائف , والخير ازاء الشر وبلوغ الحقيقة بمعانيها السامية ازاء التشويش الذهني وخلط الاوراق والضياع .
اشارات :
* صدرت رواية فكان من الناجين عن دار المتن , العراق , ط1 , 2020 م وتشتمل على ثلاث فصول وتقع في 152 صفحة من الحجم المتوسط .
** حسين عبد الخضر روائي ومسرحي (دراما توج ) . تولد 1973 , العراق / ذي قار وحاصل على الدبلوم في التحليلات الكيمياوية . عضو اتحاد كتاب وادباء العراق فرع ذي قار .ومن اعماله الروائية المنشورة هي :
1
. شتات ذاكرة , دار الشؤون الثقافية , بغداد , 2008 .
2. مواسم العطش , دار ازمنة , الاردن , 2009 . 3. مهرجان الاقنعة , دار الينابيع . 4. تحت التنقيح , دار المكتبة الاهلية , نشر وتوزيع العراق – البصرة القديمة – طبع في للبنان 2017 .
*** عبد الكريم عيسى من مواليد 1958 / العراق- ذي قار –الناصرية. بكلوريوس في اللغة الانكليزية من جامعة البصرة /كلية التربية للعام (1983-1984) .عضو اتحاد ادباء العراق فرع ذي قار. في الترجمة , نشر له كتاب بعنوان (سيدة باكية في مفترق الطرق وترجمات اخرى من النقد الادبي الحديث عن دار تموز –ط1-2012 . وفي البحث الادبي والنقد صدر له كتاب من تأليفه بعنوان ( قراءات لمختارات من المشهد الثقافي العراقي) عن دار الورشة الثقافية للطباعة والنشر- بغداد - العراق –ط1- 2020 وله دراسات وترجمات في عدد من الصحف العربية والعراقية وعلى المواقع الالكترونية.
تعليقات
إرسال تعليق