التحليل النقدي الذرائعي للقصة الموجزة المكثفة(ق.م.م)

ترف

 للأديبة السورية ليلى أحمد

بقلم: عبد الرزاق الغالبي

وقف قبالة السفح، وأطلق صرخة اهتزّت لها الأرجاء؛ شنّف الصدى أذنيه، دار على نفسه، عندما تلفت حوله يستطلع المكان باغتته يد تشدّ وثاقه: لقد أقلقت راحة سكّان الفضاء .

 

مقدّمة

 لأول مرّة أقف إلى حدّ يدهشني فيه التداخل الفني في عمل سردي يحمل دلالات بعدد أصابع اليد الواحدة وأقل، لكن باطنها طوفان من ألق وإبداع، وما واجهني غزا خاطري في حينه، قول  ( خير الكلام ما قلّ ودلّ), لكن هذا القول لم يخرجني من  دهشتي بسبب فيض الإبداع في  التداخل الفني والجمالي المركّب والمحتل  بموازاة  لفيض التداخل هذا، والذي جعل التحليل غير ممكن في هذه القصة المترعة بـ (المغالاة)، فأقنعني هذا النص بولادة مصطلح جديد في هذا النوع من الأدب هو(القص المركّب) ... من منظوري الذرائعي، بأنها قصّة مركّبة, وسنرى  ذلك التداخل في ديباجة النص المرئية التي صارت عصيّة على التحليل بسبب هذا التداخل والدلالات اللاحقة:

1.ديباجة النص:

الإستناد في هذا النص اشتغل كثيرًا بشكل أوسع من الإحالة, بحيث جمع بين الخيال والإيحاء، والمغالاة، لكن ما نراه يختلف تمامًا عما نظّنه: الوقوف على السفح هو عزلة وهروب، وسماع الصدى تأكيد لهذه العزلة، أما التلفّت حول أنفسنا فهذا تأكيد آخر من أن المكان لا أحد فيه, وأخيرًا, ورغم هذا الهروب والعزلة, أحيلت عليه قضية الإزعاج للآخرين...ومن الآخرون؟! هم سكان الفضاء...!! فهذا التنقل الزمكاني الرائع ضيّع المفهوم في نصف الدلالات المرئية, وجعله عصيًّا على التحليل، لذا سنلجأ للدلالات نفسها لتشير لنا نحو نصفها المخبوء و أسرار ما يحدث من إحالات...

2.التحليل الدلالي الإيحائي الذرائعي:

الدلالة الأولى: وقف قبالة السفح، وأطلق صرخة اهتزت لها الأرجاء: في هذه الدلالة تضع الكاتبة (ليلى أحمد ) زمكانيتها في الوقوف قبالة السفح لتعطي سمة جليّة لخوفها من أن يسمع ما يظهر منها من كلام ومع ذلك بانت شدّة الخوف فيها فتحوّلت إلى صريخ، والصريخ يقود إلى الرعب, وهو أعتى درجة من درجات الخوف, فأعطت ثيمة قصتها التي ستكون صراعًا كثيفًا وشديدًا تكشفه لنا الدلالات القادمة:

الدلالة الثانية: شنّف الصدى أذنيه، دار على نفسه: في هذه الدلالة تعبّر الكاتبة عن راحتها النفسية بعد أن تنفّست حريتها صريخًا، وتلك إشارة إيحائية شاملة للإنسان المظلوم, وإحالة ثقيلة لنوع هذا الظلم عندما يزداد الضغط فوق أعصابه, فيلجأ للانفراد والبكاء, لذلك استخدمت الكاتبة العبقرية مفردة (شنّف) وهي دلالة سماع الصريخ, يريح النفس لأنه تنفيس عن قهر مكبوت قاتل....

الدلالة الثالثة: تلفّت حوله يستطلع المكان باغتته يد تشدّ وثاقه: وهنا بيت القصيد,  ثبت صحة ما قاله قلته مسبقاً عن (المغالاة) فالسلطة والقوة والهيمنة دائمًا ما تكون وراء الإنسان الحر, لهذا السبب عمدت الكاتبة إلى مزج الخيال من خلال صياغة الحدث, وتستخدم الإيحاء لتشير فيه خياليًّا نحو مضمون الملاحقة للإنسان الحر من قِبل السلطة, والحر دائمًا مكتّف الأيدي واللسان وبتهمة أو بدون تهمة, وهذا ما تشعل الضوء فيه الدلالة القادمة لتقفل الإحالات الذرائعية نحو إنجازقضية كاملة..

الدلالة الرابعة: لقد أقلقت راحة سكان الفضاء: هذه الدلالة تعلن شدّة المغالاة في سخط السلطة على مواطنيها إلى درجة الإتهام باللامعقول, حتى لو اختلى الحرّ في أعمق أعماق الأرض فهي تلاحقه بالتهم, وصناعة التهم في الوطن العربي تفوق الخيال, لذلك عبّرت عنها الكاتبة الكبيرة ليلى أحمد بسكان الفضاء, لتشير لنا نحو اليأس من التخلّص من تهم  السلطة الحاكمة  على الأرض ،فإتجهت بهروبها إلى الفضاء.....

وفي هذه القصة برعت الكاتبة بالبناء الفني حين مزجت بين الخيال والإيحاء ولم تجعلها مركّبًا حتى يمكن الفصل بينهما, فالخيال لايدخل الواقع إلّا من خلال الفلسفة حين يصبح حقيقة علمية, أمّا الإيحاء فهو يسكن بين الواقع واللاواقع, فهو واقع مخبوء، وقد استخدمت الكاتبة تلك الخلطة بمغالاة مكثّفة وذلك باستخدام رمزية عالية سنذكرها في ديناميكية التحليل...

3.المستوى الديناميكي الذرائعي: في هذا المستوى نعتمد على رصد جميع المكوّنات التي تحملها الدلالات بشكل منعزل عن المرئيات والمخبوءات وكما يلي:

·        بوابة النص ونقصد به العنوان: رمزًا قويًّا لا يُخرِج النَّفَس, فقد خنقته عبرة الخوف فجعلته يقذف حممًا من السخرية, لكونه جاء معاكسًا ليبعد الشبهة عن المرئيات, وهو تعبير تهكمي(Irony).. وهي تقنية معروفة في الكتابة المسرحية..

·        الرمزية: استخدمت الكاتبة الرمزية المغلقة في كل دلالاتها, حتى صارت الدلالات السيمانتيكية الظاهرة عبئًا على كاهل القصة حين زادتها تكثيفًا يقرّ البنائين الفني والجمالي إيحائيًا...

·        أعطت هذه القصة متانة  في الإحالة والإسناد: فصارت ثيمتها قضية حسب المبدأ القضوي للفيلسوف سيرل حيث باعدت كثيرًا بين شطرَي الدلالات حتى جعلت المرئي بعيدًا جدًّا عن المخبوء, وهذا هو منتهى الجودة في التكثيف....

·        التقنيات: استخدمت الكاتبة الرائعة ليلى أحمد تقنية المزج بين الإيحاء والخيال بشكل مزيجي ساهم بالتفاعل, وخرج كعامل مساعد لذلك عمدت االتعامل مع المركب بديلا لكونه يشكل في الخلط مادة جديدة في الكيمياء السردية. ..

·        الأسلوب: مبهر! فقد كتبت قصتّها بأسلوب خالي من الحشو بأربعة دلالات فقط أحاطت بقضية إنجازية ،تصل كتابتها سرديًّا مئات الصفحات.

·        حمل الكلمة: حملت الكاتبة ليلى أحمد مفرداتها أحمالًا تنوء بها الدلالات:

- فلسفية

- رمزية

- سايكولوجية

- سيمانتيكية

- إيحائية

- وطنية

- اجتماعية

- أخرى

4. المستوى النفسي:

 شيء بديهي, وحسب المنظور الذرائعي, أن الكاتب ينطلق من أعماقه الداخلية في كتابته, وكلّما كان الحدث موثرًا كان الغوص في كينونته عميقًا، لذلك يبدو لي أن أهم مستوى من مستويات الذرائعية هو المستوى النفسي, لكونه يتعلّق بإرهاصات الكاتب السايكولوجية

 

 

والداخلية, والتي تنعكس في شخصياته التي تلعب حركتها فوق مسرح ذاته من أحاسيس وسلوكيات, والناقد الحصيف هو من يستغل هذا المستوى للنفاذ من خلاله نحو أعماق الكاتب من خلال دلالة التي تعبر عن سلوكياته وحيثياته الخاصة التي تكوّن الصورة المنعكسة في مرآة إحساسه، عاملنا الذي نراه واضحًا هو الخوف الكامن في أعماق الكاتبة والمقابل الإنساني الذي يتحرّك في كينونتها الخارجية, ولا تستطيع إخفاءه حتى وهو مغطّى بعبائتين، عباءة الخيال وعباءة الإيحاء, ومن خلال نظرية التقمص النفسي ونظرية السلوك يكون الكاتب أمامنا مكشوفًا بكل إرهاصاته الداخلية, وهذا هو التفوّق الذرائعي بدراسة النص من الداخل وليس من الخارج...والخوف كشف المخزون الدلالي  من خلال شخصية القصة, وهي انعكاس لشخصية الكاتب الحضورية...

 

5. المستوى الأخلاقي: كل نص يكتب يحمل أخلاق كاتبه من خلال الرسائل التي يحاول ايصالها إلى المجتمع من خلال شخصيات قصته، ومجتمعنا العربي لا يحسن التعامل مع الأخلاقيات  الغربية, لأنها تخاطب قرّاء لا ينتمون لمجتمعنا العربي وأخلاقه النبيلة، فما عندنا ليس عندهم والعكس وارد، ومن منطلق المبدأ الذرائعي (النقد عرّاب الأدب والأدب عرّاب المجتمع), فلابدّ للكاتب أن يلتزم  بنصوصه بمفردات الأخلاق العربية, وهذا ما لمسته من خلال دراستي هذا النص, فهو نص ملتزم بمفرداته ودلالاته المدروسة, ولا يخوض في أمور تؤذي المجتمع كالعنف والعرقية والطائفية، وإنما يخوض في الحرية وثمنها النفسي والفيزيائي والإنساني الذي يدفعه أصحابها الأحرار, لذلك نرى النص مكتملًا أخلاقيًّا, فهو درس مؤدّب قدّمته الكاتبة لنا  بكل نظافة ورفعة  وإبداع ....

شكرًا لكاتبتنا الخلوقة ليلى أحمد وإلى إبداع جديد.....

 

عبد الرزاق عوده الغالبي

 

 

تعليقات

مشاركات شائعة

جماليات الجرح وتحولات الذات: دراسة ذرائعية في أعمال د. صباح عنوز الشعرية الكاملة بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي

بين البنية السردية والتشكّل القِيَمي: قراءة ذرائعية في رواية "مشاهد" للكاتب المصري شريف التلاوي بقلم الناقدة الدكتورة عبير خالد يحيي

الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية لديوان «رقصات الصمت تحت جنح الظلام» لـلشاعر المغربي سعيد محتال بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

تجليات أدب الخيال العلمي في المجموعة القصصية / تشابك سرّي/ للقاصّة المصرية غادة سيد دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم د. عبير خالد يحيي

المشاركات النقدية الذرائعية

كبوة الريح/دراسة نقدية ذرائعية

مؤلف عبد الرحمن الصوفي

الشعر الحر وتمثّلات الدعوة لأغراض شعرية جديدة - دراسة ذرائعية مستقطعة في قصائد للشاعر العراقي وليد جاسم الزبيدي من ديوان ( مرايا الورد) بقلم الناقدة الذرائعية السورية د. عبيرخالد يحيي

جرأة التجريب ولعبة الميتاسرد في رواية ( لو لم أعشقها) للأديب المسرجي والروائي المصري الكبير السيد حافظ - دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة السورية الدكتورة عبير خالد يحيي

قداسة المكان و تحليق الذّات الملتهبة

التوازي في الدلالات السردية - دراسة ذرائعية باستراتيجية الاسترجاع في رواية ( بغداد .. وقد انتصف الليل فيها) للأديبة التونسية حياة الرايس - بقلم الناقدة الذرائعية السورية د. عبير خالد يحيي

قصيدة ترميم الروح

قصيدة النثر العربية المعاصرة

أدب الغزو من منظور ذرائعي

تعبير رؤية