الأدب القصصي القصير والقصير (جدًّا) عند الأديب العراقي مهدي الجابري
التعضيد النقدي الذرائعي بقلم:
عبد الرزاق عودة الغالبي
تمهيد:
إشكالية تاريخية سردية لا تزال مفتوحة لتأثر الموضوع بحركة التقدم الحضاري والتكنولوجي, والكل يدرك أن الأدب عراب المجتمع, فهو الذي يسند المجتمع من كل الوجوه, وهوالذي يلتقط صور الأحداث ويمليها علينا مسرحًا وقصصًا وروايات, ومن هذا المنطلق سنتحدث عن آخر تطور في هذا المنحى ولنأتيه بشكل عمودي:
• الرواية
• النوفللا
• القص القصير بأنواعه المفتوح والمغلق
• القص القصير جدًّا المحبوك(الحبكي)
• القص القصير جدًّا المكثّف
• والقص القصير جدًّا الوامض
• والهمسة النسوية: قصير جدًّا مكثف ومفتوح أنثوي الإحساس والإجراء: حنان أبو سنينة, الدكتورة عتيقة, الدكتورة عبير خالد يحيي.
وحصتّنا اليوم التحدّث بما أثاره (الأديب مهدي الجابري), فقد قرأت له منجزين:
الأول: غناء القصب – قص قصير.
والثاني : أتوا على قميصنا – قص قصير جدًّا
وفي هذا اليوم سأتحدث كترسيم نقدي علمي في القصير( جدًّا) وهو خطوة إلى الوراء في السرد وخطوة إلى الأمام في العصرنة السردية التكنيكية.
التسمية:
هنالك اختلاف نقدي بين لفظ القصير والقصير جدًّا, والذريعة أن كلمة جدًّا تلغي الحدث السردي لو دخلت في العنوان( وهذا رأي علمي مفتوح لكم المداخلات) والسبب علمي هوإلغاء( السردية) وما معنى السردية، السردية هو سرد الحدث بلغة مفهومة تنتظم ببناء فني مرتب (استهلال –صراع درامي –عقدة- حل – نهاية) وبناء جمالي، فالإشكالية هنا أن جميع الأجناس السردية قد دخلت علم السرد, وهذا العلم لا يسمح بالتلاعب في بنيتها السردية, وعندما ترجمت كلمة( جدًّا) ألغت الحدث والحدث السردي، بذلك أخرجت هذا النوع من علم السرد وأدخلته في علم آخر وهوعلم الإيحاء Implicature
وهذا الخروج من علم السرد له متعلقات, وتلك المتعلقات تخرجه من كلمة( قص)...بذلك يكون القص (الجدًّا) خارج خيمة القص نقديًّا...
حل هذا الإشكال نقديًّا ذرائعيًّا وعلميًّا:
يكمن الحل لتلك المعضلة بالبحث عن مكان الإشكال, فهو يقع في (جدًّا), وهذه الكلمة تعتبر من أجزاء الكلام في اللغة, وتسمى بالمشدّد في لغة أصل الجنس (والمشدّدات تسبق الصفات, وبعد ترتيب الصفات قبل الإسم الموصوف يسبق هذا المشدّد جميع الصفات لتشديدها بقوة عموديًّا-أعلى أو أسفل- وأفقياً - يسار أو يمين- يعني إعطاء قوة للصفة,صفة القصر إلى حد الاختفاء وتقليل الشأن للجنس الأدبي), وهذا الموضوع مشهور في اللغة الإنكليزية كأصل لغوي لهذا الجنس، وقد ظهر هذا النوع الأدبي فيه، فحينما ترجم للغة العربية خضعت الترجمة (لمبدأ ليس كل حالة في لغة معينة نجدها بعد الترجمة بالتام والكمال في اللغة الأخرى )فكل لغة لها مقوماتها وأعمدتها, وأن هناك تلاقٍ بينها نقاط أخرى من الطفيف في عمود أو عمودين من أعمدتها.....لذلك دخول (جدًّا) في اللغة العربية كمقابل ترجمي لكلمة (very) لم يكن موفّقًا, ولم يؤدي واجبه بالشكل الصحيح (لكونه صغّر القصة حدّ الاختفاء وتقليل الشأن), للأسباب السالفة الذكر في (القص والسرد) لذلك علينا أن نعدل في العنوان لنعطي لهذا الكائن الأدبي خصوصيته الأدبية وهويته والقيام بالدفع إلى الأمام لأنه أدب جميل مقتضب وراقي ويتوائم مع هذا الجيل المستعجل, وهو الوحيد الذي يعيش الآن بزمكانية التكنولوجيا. فالحل أن نبدل كلمة (جدًّا بالمكثّف أو نضيف كلمة المكثّف دون مس العنوان)وتحل المعضلة سرديًّا ويصبح قصاً مكثفًا وليس صغيرًا وقصيرًا جدًّا. هذا رأي علمي عليكم مناقشته.
القص المكثف:
هو نوع أدبي جديد مثير للجدل، ملائم جيد ومناسب لروح العصر الذي عزف فيه الكثيرون عن إنفاق الوقت في القراءة لأحداث سردية فارغة، بحكم التقدم العلمي والحاسوبي للعقل البشري، والتوجّه الذهني نحو التفكير العلمي الدقيق في كل الأمور ومنها الأدب، وإطلاق العنان للعقل بدلًا من البصر، فحلّ التبصّر، فتحرّك المضمون في هذا النوع على حساب الشكل, فقام كتّابها المتبصّرون بإطلاق العنان للأعمدة الرمزية والإشارة لكل المفاصل النصّية بالتكثيف الرمزي، فهي قص قصير بكل عناصره، من عنوان ومقدمة وصراع درامي وعقدة وانفراج ونهاية، لكن غياب النقد الرصين من الساحة الأدبية جعل بعض المتشدّقين يقومون بتخريب هذا الجنس الجميل، وإعطائه أبعادًا غريبة، وغير موجودة في الأدب العربي، رغم أن هذا الفن الأدبي موجود في الأدب العربي قديمًا بإسم مصغر للقصة القصيرة (الأقصوصة)، وكان السرد فيه يخضع للعمق المعروف بالإطناب أي استخدام التكثيف في معاني المفردات بشكل فصيح، والعمق في اللغة العربية، هو الذهاب نحو جذورها الفصحى، إذن هو شكل من الأشكال الجمالية....وتسري عليه عناصر البنائين، البناء الفني والبناء الجمالي كما في القص القصير....وقد أساء البعض لهذا الجنس الجميل، بنعته بكلمة (جدًّا) التي أخذت به نحو الحبك الإخباري الفارغ أدبيًّا، وأدخلته تحت جلباب الخبر الصحفي التقريري، فصار حبكة ملخصة فارغة من العمق الأدبي والجمال النصي والرمز، فسار باتجاه صحفي إخباري تقريري بحت أذا هو قص قصير لو إكتسب الكثافة النصية:
سمات النص المكثف في بنيته العميقة:
1. حذفت زمكانية الماضي والحاضر فيه, فوقع في حضن المستقبل البعد الرابع الكوني أي رافضًا لأبعاد أقليدس (الطول والعرض والارتفاع).
2. اكتسب صفة القص لكون مكونات البناء الفني فيه صارت تمتد من الحاضر الذي أصبح ماض وتهاجر نحو المستقبل لصيد البناء الفني.
3. رمزي بالشكل والتعبير فيعمل بالتأجيل والإرجاء لكسب عملية مراوغة التأويل.
4. إدراكي يعتمد على التبصر وليس البصر فكل شيء فيه عدى الكلمات هو غير مرئي ينبع من بين السطور.
5. مناسب لروح العصر في السرعة والاستعجال والتخمين الفكري.
6. استخدم فيه الإطناب قديمًا (الأقصوصة) وصار اليوم بالتكثيف بعد ظهور الذرائعية والإيحاء الفكري.
7. كلماته مقتضبة لذلك تسلك وتتصرف كدلالات إرتكازية تشير نحو المستقبل بحذف زمكانية الماضي والحاضر لتقع في البعد الرابع...بعد المستقبل والأحلام.
أنماط القص القصير المكثف:
فهو يأخذ أنماط القص القصير بعد التعديل مع خروج بسيط من زمكانية الماضي والحاضر والتحرك في المستقبل:
1- الميثولوجيا:
وهو مزج بين الأساطير والزمن المعاصر، دون التأثّر بما شكّلته لنا الأساطير من سحر وجمال... أو حتى التقيد بأزمنتها وأمكنتها الإنشائية.
2- التسجيلية
هي لا تعني الخواطر والوجدانيات أو حتى الكتابة الإنشائية, بل هي قصص في إطارها المألوف، ولكن بإضافات إبداعية تضمن للكاتب الحرية والتحرك في الأفكار الوجدانية.
3- السيكولوجية
قصص تطمح في تصوير الإنسان وعكس أفكاره الداخلية، حتى تصل إلى المستوى النفسي للإنسان وتتكلم دائمًا عن أشياء خفية في النفس البشرية.
4- الفانتازيا:
هو أشرس أنواع القصة، فهو ذو طابع متمرّد، متميّز بالغربة والضياع, هو أسلوب ثوري على الأساليب التقليدية وخروج غير مألوف عن الدارج بحيث يطغى على المادة، وكاتب هذه النوعية من القصص يرفض التقليد.
الأستاذ مهدي والإبداع في هذا النوع القصير والقصير جدًّا:
والأستاذ مهدي كتب القص القصير في (غناء القصب) و القصير جدًّا في (أتَواعلى قميصنا):
1. توظيف الكلمة بشكل ذكي ,بإخراجها من الحالة السيمانتيكية إلى الحالة البراغماتية لتنتشر حول نفسها وتغطي السطور وما تحتها بجزء من زمكانية الماضي المنظورة مثال:
- (بعد أن أكلت إكلها) تجاوز الماضي بكلمة (بعد) ودخل الثيمة
- وأعطى الموضوع (حرق الروض بشره) ثم
- حل القضية (حاصرته ضاق ذرعًا) سايكولوجية الحدث يكمل في التبصر الذهني الذرائعي غير المرئي فينتقل إلى مابين السطور ليخوض بالمستقبل.
- (استقبله البحر، غاص فيه) النهاية.....
- (قص الزبد حكايته) نتائج الحدث الفلسفية...
هذا المثال في ص5 وويستأنف تكراره في نفس الأستراتيجية في ص6 و7و8و9و10و11..... آخر كتاب الموسوم (أتوا على قميصنا)...
2. في الخوض في تلك الاستراتيجية الذكية يتّخذ الكاتب (مهدي الجابري) تقنيات راقية, يشعر المتلقي وكانه يقرأ رواية, لكونه يوحي له بسرد تبصيري إيحائي ذهني ذرائعي غير مرئي, يسكن خلف جدار الواقع، لكنه يجعله واقعًا مرئيًّا بحذف الزمكانيات والإشارة إليها بكلمة إرتكازية مخصصة وموظفة لهذا الغرض مثل(كلمة بعد) أداة تشير لما قبلها وتنبئ لما بعدها...
3. هذا الخوض المورفولوجي والترابط السياقي يجعل القارئ يقرأ نصًّا سرديًّا كاملًا عن طريق الإيحاء المتمدد على طول ديباجة القص...
4. استخدم الكاتب الذكي مهدي الجابري تقنية الإشارة بتوظيف المفردات كدلالات إشارية تتمدد بصورة أفقية من الماضي وتتجاوز الحاضر وتشتغل في المستقبل وتشعر وكأنك تقرأ حلمًا.
والبعد الزمكاني الرابع يلغي ثلاثية الأبعاد الهندسية المكونة لبنية الحدث والشيء (الطول والعرض والارتفاع) ويقع في مجال أهليليجية الزمكانية, وهذا يعني أن الكاتب يتلاعب بزمكانية الحدث المرسوم في ذاكرته, وفي بُعد الأحلام هذا (البعد الرابع الذي يتوقف الزمن فيه ويتغيّر المكان وتستمر البنية في الحضور) لذلك في بعد الأحلام ينتقل الإنسان كاملًا جسدًا وروحًا ومكانًا وحركة في ديناميكية البعد الرابع، وهو غارق في النوم، وهذا ما ثبت علميًّا أن هناك أبعاد لم تكتشف بعد، يسافر لها الإنسان في النوم وربما، في المستقبل، يصبح السفر إليها في اليقظة كالبعد الخامس والسادس .... ما دام أنشتاين اكتشف بُعدها الرابع وأصبح حقيقة مثبتة علميًّا...وتحضرني هنا فحوى حكاية رسول هرقل إلى رسول الله محمد (ص)، شيخًا كبيرًا، قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل، فناول الصحيفة رجلاً عن يساره . قال : من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا : معاوية ، هذا كتاب صاحبي : " إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، فأين النار...؟
: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :
" سبحان الله! فأين الليل إذا جاء النهار ؟"
1. بلاغيًّا، وصف الأديب مهدي الجابري، الكلمات التي استخدمها، إطنابًا, وهذا الاستعمال يدخله بالبناء الجمالي بعد أن صارع الزمكانية بعملية التكثيف ليعطي بنية فنية لقصصه القصيرة المكثفة, بذلك أثبت أن بنية قصة المكثفة كاملة سرديًّا ببنائين : بناء فني وبناء جمالي...
2. بذلك أحدث صراعًا دراميًّا مفترضًا في بنيته السردية المكبوسة بعد أن أطلق العنان لمحوَري التكوين والمحور المعارض بتكوين الحدث السردي فوق محور التوليد العمودي، فتم التقاطع بينهما لتوليد العقدة وانقلاب الحدث من صراع درامي إلى حل, فتكوّن لديه مثلثين للتشابك السردي، المثلث السفلي للصراع الدرامي, والمثلث العلوي للحل والنهايات...
3. لو تبحّرنا بالكلمات جيدًا لوجدناه قد حمّلها الثقيل، فقد حمّلها علم الجمال من حيث إيجابية الكلمات ضمن الاختيار السيمانتيكي, فهو يدرس الكلمة جيدًا قبل استعمالها...فتسكن كلماته الحمولات التالية:
· الإرتكازية
· التدليل
· الإيحاء
· الخيال
· الرمز
· الجمال البلاغي
· علم الجمال
عذرًا .....كل دراسة لا تكتمل وتبقى ناقصة لكون من يكتب الأدب بصورة إبداعية، يبقى نصه مشتعلًا كالشمس لا ينطفئ إلى ما لا نهاية, والنص الرصين لا يغلق أبدًا، بل يخلد ويخلد كاتبه، لذلك أعتذر عن النقص والهنّات اللغوية، فالكمال لله وحده, ولا بشر يناله إلا المتخلفبن الذين يظنون أنفسهم أعلم الناس، وهم من أكدوا بأنفسهم أنهم متخلفون ،فعلًا، بزعمهم هذا......
المصادر
1. عبد الرزاق الغالبي، الذرائعية بين المفهوم الفلسفي واللغوي
2. عبد الرزاق الغالبي، الذرائعية وسيادة الأجناس الأدبية
3. عبد الرزاق الغالبي، الذرائعية في التطبيق
4. عبد الرزاق الغالبي، الذرائعية والعقل
5. عبد الرزاق الغالبي، الذرائعية والتحليل النقدي العلمي
6. عبير خالد يحيي، السياب يموت غدًا...دراسة شعر عبد الجبار الفياض
7. عبير خالد يحيي، قصيدة النثر العربية بمنظور ذرائعي- دراسات نقدية
8. عبير خالد يحيي، أدب الرحلات بمنظور ذرائعي – دراسات نقدية
9. عبد الرحمن الصوفي، دراسات نقدية –شعر مليكة الجباري
10. Abdulrazak Oudah Alghaliby,Communicative Language Teaching in Action
11. Abdulrazak Oudah Alghaliby,Critical Pragmatic Arabic Approach
التشابك السردي الذرائعي
تعليقات
إرسال تعليق