تجليات القمر الدلاليّة في شعر القس جوزيف ايليا قصيدة "أنا والقمر"نموذجاً بقلم الأديبة الناقدة الذرائعية سمر أبو السعود الديك
-القس جوزيف ايليا شاعر سوري من مدينة
المالكية التابعة لمحافظة الحسكة مواليد
1964 كان رئيساً للطائفة الإنجيلية فيها لمدة اقتربت من ربع قرن حتى نزوحه عنها
بسبب مخاطر الحرب السورية وتبعاتها إلى ألمانيا حيث يُقيم فيها حالياً يكتب الشعر
العمودي وقصيدة التفعيلة، وأناشيد للأطفال وقد شارك في العديد من الأمسيات
الشّعريّة وأجريت معه عدّة لقاءاتٍ تلفزيونيّةٍ وإذاعيّةٍ سوريّةٍ وعربيّةٍ وعبر
مجلّاتٍ وجرائد عديدة وتثبّت اسمه في أكثر من موسوعةٍ شعريّةٍ
وقد تمّ تكريمه من بعض المحافل
الأدبيّة في سوريّة والوطن العربيّ والعالم وغنّى من شعره كثيرون من المطربين
والمطربات على امتداد الوطن العربيّ
كما شارك بنصوصٍ له في دواوين مشتركة
مع كبار الشّعراء والشّاعرات
ومن الجدير بالذكر أنه قد قام بصياغة
مفاتيحَ جديدةٍ لبحور الشِّعر العربي ونظم قصائد على البحور الميتة المهملَة كما
أنّه أنجز ألفيّةً بمواضيعَ اجتماعيّةٍ متنوّعةٍ
وأصدر خمسَ مجموعاتٍ شعريّةٍ حتّى
الآن ويُنتظر صدورُ مؤلّفاته الشّعريّة الكاملة قريبًا
قصيدة "أنا والقمر "
رحتُ
أنظرُ القمرا
بعدَ
غيبةٍ ظهَرا
يقسِمُ الرّغيفَ معي
باسمًا وبيْ شعَرا
أشتكي لهُ وجعًا
عُنْقَ بهجتي نحَرا
منهُ طالبًا نغمًا
قد يخفِّفُ الضجَرا
قائلًا : ألا لغدي
هاتِ واعزفِ الوترا
قد هجرتُ أغنيتي
إنّها غدت حجرا
لا
حياةَ تلثِمُها
إذْ لها محَوا الأثرا
إنّني أيا قمرًا
نورُهُ الدُّجى غمَرا
كم كرهتُ في زمني
واقعًا قدِ انكسرا
خذْ يديْ وصِرْ وطني
فيهِ أرسمُ الصُّوَرا
ناظرًا ووجهُكَ ليْ
بَعْثَ ميّتٍ قُبِرا
---
القس جوزيف إيليا
١٣ / ١٠ /٢٠٢٢
مدخل
مما لاشك فيه أنّ الشعر حالة من
التأمل والإبحار في تفاصيل الحياة لذلك نجد أنّ معظم الشعراء لجؤوا إلى القمر
كحالة عموميّة تخطّتْ الشعر لتدخل في اليومي كتشبيه للجمال التام وكرفيق للعاشق
والمسافر في ليالي السهر وقدْ حملت القصائد القمر منذ شعرية العصر الجاهلي إلى
اليوم كما عند عنترة والخنساء،وأبي فراس الحمداني، وابن زيدون، وبدوي الجبل
وغيرهم.
والإنسان حين أراد احتساب الوقت أو
الزمن لجأ بدايةً إلى القمر ودورته، فضلاً عن كونه يحمل رمزية دينيّة، لقد كان
القمر ملازماً للشاعر سواء في إطاره المادي أو المتخيل، لذلك وجدنا الشاعر في
قصيدته يُناجي قمرَه يبادله الأحاسيس ويفشي له الأسرار.
وهنا يُذكرنا بالشاعر بدوي الجبل حيثُ
يقول:
هات حدّثني فقد طاب السمر
وأَنِرْ ظلمةَ نفسي يا قمر
المستوى الدلالي الإيحائي
———————-
الثيمة الرئيسية للقصيدة هي
"القمر" الذي ينشر الضوء, وهو من أكثر الكواكب التي تفاعل معها الشعراء
.لكن القمر عند الشاعر القس جوزيف إيليا له تأثيره الدلالي في سمو الصورة الفنيّة,
فالقمر عنده ليس اسماً لظاهرة سماوية في اللغة، بل له دلالات كثيرة إيجابية وسلبية
مثل الوطن، الأمل، الشباب المكافح، النصر، الحرية، المدينة الفاضلة, إلى جانب
دلالاته السلبية كاليأس، والحزن، والموت…لقد اجتاز الشاعر التوظيف التقليدي للقمر
فمنحه أبعاداً مجازية ورمزية حلّق من خلالها في المخيال الشعري من خلال هذه
الحمولة الفنية الكامنة فيه والتي سآتي على ذكرها تتابعاً.
ففي دلالته الأولى الارتكازية
"الرغيف"بقوله :
يقسمُ الرغيف معي
باسماً وبيّ شعرا
دلالة انزياحبة وموحية بنفس الوقت على
جوع الشعب وفقره وضنك العيش المؤلم.
كما نجدُ دلالة ثانية على"شخصنة
القمر"ومشاركة الطبيعة لمشاعره وأحاسيسه وأوجاعه بقوله:
أشتكي له وجعاً
عُنقَ بهجتي نحرا
منه طالباً نغماً
قدْ يخفّفُ الضجرا
قائلاً ألا لغدي
هات واعزف الوترا
إذاً الشاعر باقترانه مع القمر أراد
أن يهرب من ضجيج الحياة وتناقضاتها وتدنّي القيم الأخلاقية في عصر الحروب والفساد
الاجتماعي , حيثُ رسم صورةً عامة لحالة الشعوب في زمن الحرب, وتحديداً حالة الشعب
السوري المؤلمة في ظل تلك الحرب الطاحنة .لكن الشاعر لم يفقد الأمل بعودة الحياة
الآمنة إلى البلدان عامة, لذلك طلب من القمر أن يعزف الوتر فهو يأملُ بالخلاص
والسلام في قادم الأيام ونور القمر يُضيء العتمة بعد ليلٍ حالك بالسواد"نوره
الدّجى غمرا
وفي قوله:
قدْ هجرتُ أغنيتي
إنّها غدتْ حجرا
دلالة ايحائية على قساوة الحياة
وصعوبتها, لكنه بالتأكيد نجح في المزاوجة بين عالمه الداخلي, حيث الحزن والقلق, مع
العالم الكوني الخارجي, حيث القمر بدلالته الإيحائية وفي إطاره المادي مصدراً
للنور والجمال ورغد العيش.
وإذا انتقلنا إلى دلالة إيحائية أخرى
في قوله:
كم كرهتُ في زمني
واقعاً قدِ انكسرا
وجدنا القوة والشجاعة وعدم قبول الضيم
والهوان, ويبقى الشاعر متفائلاً باقترانه بالقمر الذي هو بمثابة وطنه الذي حمله
معه في هجرته لألمانيا
خذْ يدي وصرْ وطني
فيه أرسمُ الصورا
حيثُ لجأ إلى القمر بشكل مباشر بلا
مراوغات لغوية ومجازية بأنْ يصبح له وطناً ولكي يحيا من جديد بعد أن لاقى الموت
ودفن في الحياة في ظل الحرب الطاحنة
"ناظراً وجهُكَ لي
بَعثَ ميّتٍ قُبرا
*المستوى اللساني والجمالي *
————————
أشبع الشاعر القصيدة بانزياحات لقضية
معاناة الذات عنده, ومعاناة الشعب بشكل عام من الفقر وضنك العيش بحيث ترك المتلقي
يفك رموز القصيدة بصمت خفي .كما لجأ إلى الصور البيانية من خلال الاستعارة بنوعيها
التصريحية والمكنية (القمر يقسم الرغيف معي/عنق بهجتي نحرا/أشتكي له وجعاً)
ولم ينس علوم البديع فنراه يأتي
بالجناس والطباق والمقابلة (نحر/غمر/ضجرا/نغماً/الضجر والوجع…)
وبشكل عام تميّز أسلوب الشاعر
بالانزياحات واستخدام البيان والبديع .
الأيديولوجية الفكرية والمستوى الأخلاقي
—————————
لاشك أنّ الشاعر القس جوزيف ايليا كان
مرآة عاكسة لهموم الأمة والتزامه بأخلاق وقيم المجتمع المتمدن الذي يعشق الحرية
والكرامة, بالإضافة إلى ثقافته الفلسفية التي أغنتْ القصيدة بكل جوانبها فبدتْ لنا
قصيدة وجودية فلسفية يُشار لها بالبنان, حيث كتب القصيدة الكلاسيكية باتجاه مغاير
للمألوف, منفتح على العصر. لقد حافظ على بنية القصيدة الكلاسيكية لكنه خرج عن أغراضها
التقليدية فلم يُمالئ السلطة، لم يمدح، لم يهجو, وإنما حمل على عاتقه مهمة التنوير
والسعي نحو الكرامة والحرية بالرغم من أنه لم يخرج من تحت عباءة القصيدة العمودية
إلاّ أنه استطاع ترويضها فتقبّلتْ مُعطيات الحداثة في بنيتها الشعرية وفي البؤرة
الفكرية وبقي مخلصاً للقصيدة الخليلية جامعاً بين الأصالة والمعاصرة وكأننا أمام
شعر المهجر في تلك القصيدة.
*المستوى النفسي والحالة النفسية *
————————
القصيدة تضمر دلالات تعبر عن حالة
الكبت والضجر والإحباط السيكولوجي لعامة الشعب, من خلال تردي الأوضاع بشكل عام,
ورغم ذلك هناك كوة النور والأمل بعودة الأمن والسلام, وتنجلي الظلمة إلى نور مشعّ
في أرجاء البلاد .
المستوى الحركي والموسيقا الشعرية
—————————
القصيدة تنتمي إلى الشعر العمودي
بُنيتْ على بحر المقتضب
مَفْعَلاتُ
مستعِلن/ مَفْعَلاتُ مستعِلن
وهذا البحر نادر الاستخدام لكن الشاعر
متمكّن من ثقافته الفنية والموسيقيّة وقد جاء بحرف الروي الراء المشبعة بألف
الإطلاق فنظم أجمل القصيد.
ولاأُبالغ إنْ قلتُ أن الشاعر القس
جوزيف ايليا تربّع مع الشعراء الكبار على سدة الشعر العربي الكلاسيكي مؤكّدة أنه
علامة فارقة في الشعر العربي المعاصر مما يدلّ على أن الشعر العمودي مايزالُ
قادراً على مواكبة الحداثة.
تعليقات
إرسال تعليق